كومبارس المسرح الذي يشبه حياتنا إلى حدٍّ بعيد … بروز جيل مسرحي شاب ومثقف
| أحمد محمّد السّح
تتنوعُ الأحداث والتقنياتُ التي تدفعُ الإنسان إلى الغور في أعماق نفسهِ، ولكن المسرح هو أحد أهم الوسائل التي تدفعنا لنكتشفَ انكسارَ دواخلنا ونحن نراها أمامنا على الخشبة، بكل صراحتها وشفافيتها، وهو ما تميزت به مسرحية «كومبارس» التي تُعرَض على مسرح القاعة المتعددة الاستعمالات في دار الأسد للثقافة والفنون هذه الأيام.
المسرحيةُ مأخوذةٌ عن نص «الأذن الخصوصية» للكاتب الإنكليزي «بيتر شافر» وأعاد الاقتباس منهُ وإخراجه المخرج المسرحي «يزن الداهوك» وهو من بطولة خالد شباط، ومرح حسن ووسيم قزق، ويعرض في احتفالية أيام الثقافة في سورية، إلى جانب النشاطات التي تقوم بها الوزارة في مختلف المجالات الثقافية في هذه المناسبة.
تعتمد المسرحية على عرضِ الحالة الشخصية والنفسية لشابٍّ في مقتبل العمر يسكنُ في غرفةٍ مستأجرةٍ هي ملحقٌ لبناءٍ مبني على الطراز الفرنسي، في المدينة التي جاء إليها ليحقق أحلامه، فتبدأ الأحداث من لحظة انتظاره لزيارة صديقته التي ينوي أن يمهّد لها بالاعتراف بمشاعر يحسها تجاهها، ويكون صديقهُ الذي يكبره في السنّ والتجربة مساعداً وداعماً في بدء هذه العلاقة، فيتعهد أن يقوم بواجب العشاء لهما، قبل أن يتركهما وحيدين في ساعةٍ محددة عسى أن تتوه مشاعرهما ويحدث اعتراف العاشق لحبيبته المنتظرة.
يتقن خالد شباط أداء الشاب شخصية (فراس) المرتبك من الزيارة الأولى لحبيبته في منزله للمرة الأولى، فيكون لهذه العاطفةِ المرتبكة مبررها لكل شابٍّ يعرف هذه الحالة، لكن الارتباك يستمر مع شخصية هذا الشاب، لتبرز لنا ملامح شخصية حالمة تعيش في خيالاتها، وتحن إلى بيئتها لأنها تشعر بغربة المدينة القاسية، على حين تتكور أحلامه في داخله فينوء بحملها، هو الذي يتابع السينما ويعيشها، ويملأ ديكور غرفته بالملصقات والأدوات التي تشبهه وتشبه اهتماماته.
بينما نرى شخصية (رفيف – مرح حسن) المحكومة بعلاقتها مع أبيها التي تندمج مع الحياة وعملها المتعب الذي يكون هو الشعرة التي تكسر العلاقة بينها وبين فراس، فهو الذي يفضل الحياة بسلبية من دون أن يدخل المجتمع وتفاصيل الحياة التي يعتبرها معاديةً للإبداع والحياة التي يرغب فيها، هذه الاعترافات تكون على العشاء الذي يجهزه (وسيم قزق) في مشهدٍ حواريٍّ طويل، تكون فيه الجمل المتبادلة بين الثلاثة هي الدافع الأساس للتصاعد الدرامي، الذي يذكرنا ربما بفيلم اثني عشر رجلاً غاضباً، الذي يعتبر من كلاسيكيات السينما التي تعتمد على الحوار بشكلٍ أساسي لتطوير الحدث وكشف مكنونات الشخصيات الداخلية، بسلاسةٍ وتوتّر بين حينٍ وآخر.
يتلقف صديق فراس انكسار الحوار بين رفيف وفراس، فيستفيد من خبرته الشخصية وتجاربه الحياتية في جذب هذه الشابة التي تغيب شخصيتها في إرادة والدها الذي يقبع في ذاكرتها وسلوكها لتكون انعكاساً له ولتجربته، من دون أن تتجرأ على تقديم شخصيتها الحقيقية، لكن ذلك الشخص بثقافته في الكتابة وتنوع تجربته الثقافية يستطيع إخراجها من ذاتها، للتعبير عن نفسها محولاً الحبيب بطل حكاية الحب إلى كومبارس يذهب إلى النوم، بعد أن تعتعه السكر، فأخرج مكنونات روحه وغضبه الكامن في مكنونات قلبه التعيسِ.
اعتمد المخرج على الواقعية الطبيعية في الأداء جاعلاً من المسرحية فيلماً سينمائياً يعرض حياً على الخشبة، وعلى تقنية عرض الإسقاط على الشاسة الكبيرة بسلاسة وتقاطعاتٍ جعلت هذه الإسقاطات لا تبدو فجةً على الخشبة إنما منسجمةً تماماً مع روح العرض الذي يقف على الحافة بين شد الجمهور المتفرج أو جعله يقع فريسة لتكرار ما يعرفه، لكن رشاقة الحوار والأداء نجت بالعرض من الوقوع في العادية والتكرار، ليتحول إلى مكاشفة نفسية، قادرة على جعل المتفرج، يشبه كل شخصيةٍ من الشخصيات الثلاث، ففي داخل كلٍ منا الحالم والعادي والوصولي، وكله تحت مظلة المجتمع الذي يتحرك تحت وطأة الضغوط الاقتصادية التي تقتل أحلام الشباب وتمنعهم حتى من متعة التجريب والوقوع في الخطأ.
ينجو العرض من وقوع مخرجه في التعاطف مع شخصيةٍ من دون أخرى، فيخرج المشاهد قادراً على أن يتعاطف مع الشخصيات الثلاث، في لحظات درامية غير استهلاكية أو مستجِرّة لمشاعر الجمهور، وفي المقابل يمكن انتقاد سلوك أو لغة كلّ واحدٍ منها، سواء في السلبية تجاه المجتمع أم الاندماج الكامل فيه. كما يذكّر المشاهد صراحةً بالكثير من الأعمال السينمائية والفنية التي تعتبر أمهات السينما العالمية، لتحرّضه على مشاهدتها أو استذكارها بعد أن كانت تفاصيلها قد غابت عن ذهنه.
ضم فريق عمل المسرحية ليليان عزام كدراما تورج، وأوس رستم في تصميم الإضاءة، وأخرج المادة الفيلمية التي تعرض أثناء العرض، ميار النوري، ومساعد المخرج خوشناف ظاظا، وعدداً من الفنيين هم محمد قطان في تنفيذ الصوت، وعبد الرحمن كيالي في الإضاءة ويوسف وعلي النوري في تنفيذ الملابس والإكسسوار، وتفيد كل هذه الجهود المبذولة أننا أمام جيل مسرحي شاب، مثقف وواعد يعتمد على تجربته الخاصة في فهمه الحديث للمسرح وتقنياته من دون انقطاعٍ عن المسرح السوري بتقاليده الخاصة التي تحتاج باستمرار إلى الدماء الشابة التي ترفده بالعطاء الواعد رغم كلّ شجون المسرح وتعب العاملين فيه.