اضطرابات وانقسامات تعصف في العديد من عواصم الاتحاد الأوروبي وتنذر بتغير وجه القارة العجوز مع الصعود المتنامي لليمين الشعبوي المتطرف في العديد من دول الاتحاد مروراً بالاحتقان غير المسبوق في المجتمع البريطاني الخارج من هذا الاتحاد.
اليمين المتشدد والتيارات الانفصالية في صعود وأوروبا منقسمة على نفسها بشكل غير مسبوق، إذ يرى المراقبون أن الأسوأ قادم لا محالة، مؤكدين أن «الشعبويين» الذين يقودون كثيراً من الأحزاب في أوروبا الآن لديهم أجندة غاضبة أحادية.
تساؤلات: ما المتوقع في أوروبا بعد صعود التيارات المتشددة؟ وهل ستتأزم العلاقة بين الجنوب والشمال؟ وما مصير المهاجرين بعد إغلاق أوروبا أبوابها في وجههم؟ المشهد مرعب للقارة العجوز التي تبدو الآن أمام ما يمكن وصفه بـ«خريف أوروبا» الاتحاد أمام تحديات سياسية واقتصادية وأمنية ضخمة وهناك تحديات جديدة سوسيولوجية وهي الحركات الاجتماعية.
الأحزاب المؤيدة للاتحاد الأوروبي، مستمرة في السيطرة على البرلمان الأوروبي. وتشكل الأحزاب المناهضة للاتحاد الأوروبي الآن نحو ربع المقاعد في البرلمان. وهذه الأخيرة تشكل أحزاباً كبيرة في أربع دول مهمة: فرنسا وإيطاليا وبريطانيا وبولندا.
سؤال: ماذا يعني هذا بالنسبة للصراع بين القوى الموالية للاتحاد الأوروبي والمناهضين للاتحاد؟ يظهر أن أحزاب يسار الوسط ويمين الوسط التقليدية آخذة في التراجع.
السؤال الأهم هو ما إذا كان الاتحاد الأوروبي يتفكك تدريجياً، أم يتقدم تدريجياً نحو اتحاد أوثق يمكنه الدفاع عن مصالح أوروبا في عالم تهيمن عليه قوتان عظميان؛ الولايات المتحدة من جهة والصين وروسيا من جهة أخرى حيث سيتم اختبار الاتحاد الأوروبي من خلال الأحداث العالمية المستقبلية.
الشلل السياسي والتفتت هما أمران محتملان يواجهان الاتحاد.
بلغة العلاقات الدبلوماسية «تجاوز» الألمان الآن البريطانيين إلى درجة أنهم لم يعودوا يشعرون كثيراً بالغضب تجاههم. على النقيض من ذلك، لا يزالون «محتجزين في زواج مختل مع فرنسا». الطلاق غير ممكن لكن شريكهم أصبح مُزعجا بشكل متزايد.
حكومة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل قررت أن «بريكست» أمر لا مفر منه. لذلك اتخذ المسؤولون الألمان موقفاً إيجابياً نوعا ما تجاه رئيس وزراء بريطانيا بوريس جونسون.
وهم غير غاضبين من أن جونسون يريد لبريطانيا أن تخرج كي تنحرف بشكل كبير عن تنظيمات الاتحاد الأوروبي الحالية.
بالمقابل يبدو أن المسؤولين الألمان تخطوا «بريكست» وتأقلموا مع الاتحاد الأوروبي من دون بريطانيا. فألمانيا مساهم كبير في ميزانية الاتحاد الأوروبي، ودون بريطانيا، وستزداد مساهمة ألمانيا بمقدار عشرة مليارات يورو في العام، وقد وصف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أخيراً الناتو بأنه تحالف «ميت دماغيا» في مقابلة مع مجلة «ذا إيكونوميست»، تسبب ذلك في رعب لدى برلين. الألمان لا يهتمون ببعض ما أثاره ماكرون عن الناتو، وخاصة الصعوبات التي يطرحها احتلال تركيا لأراض سورية ومواقف أميركا المتقلبة. المسؤولون الألمان يرون أن ماكرون ينغمس في نهج على غرار نهج الرئيس الأميركي دونالد ترامب لكن من شخص يتميز بمبادرات تتسم بزعزعة الاستقرار. وجهة نظر الألمان أن التقدم الحقيقي يتم عن طريق الدبلوماسية الدؤوبة، بدلاً من الإدلاء بتصريحات قوية للصحافة.
الرئيس ماكرون حذر من خطر محدق بأوروبا، نتيجة تصاعد تيارات قومية وصفها بـ«الطاعون»، تضفي على القارة أجواء مشابهة لتلك التي سادت بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، ناهيك عن الأزمات الاقتصادية الخانقة التي تسببت في معاناة دول عدة في القارة العجوز.
اليمين المتطرف «الشعبوية» مصطلح سياسي. عرفه المركز الأوروبي بأنه تيار سياسي يتبنى خطاباً سياسياً قائماً على معاداة مؤسسات نظامه السياسي ونخبه المجتمعية. أصبحت الأحزاب والحركات الموصوفة بـ«الشعبوية» قوة سياسية واجتماعية حاضرة بقوة بأنحاء أوروبا.
الفاشية والنازية والقومية المتطرفة هيمنت على أوروبا في حقبـة مـا بـين الحربين العالميتين، ودفعتهـا نحو الحرب. ومع بداية الأزمة المالية العالمية في 2008، ومع زيادة الهجرة بدأ بعض الأوروبيين ينظرون للمهاجرين نظرات عدائية. وتعـد الهجـرة أحد الأسـس المهمـة في خطـاب اليمـين المتطـرف في أوروبا، فضـلاً عـن البطالـة، والتـدهور الاقتصـادي، والضـرائب.
انتشار الفكر المتطرف أدى لزيادة المخاوف عند الكثير من الأوروبيين على هويتهم الثقافية وعاداتهم وتقاليدهم.
يحذر المراقبون من إعادة تشكيل المشهد السياسي في القارة وخاصة أن زعماء الأحزاب الشعبوية يشحنون المجتمع لهدم الاتحاد وتفكيكه، فعلى سبيل المثال تقول المرشحة السابقة للرئاسة الفرنسية مارين لوبن: «في فرنسا، هدفنا هو تكوين أغلبية تنأى عن الاتحاد الأوروبي المتهالك ودعت إلى الثورة على قوانين الاتحاد الأوروبي وتدميره من الداخل.
الإشكالية ليست فقط في صعود التيارات الشعبوية ولكن أيضاً في الأزمة الاقتصادية التي لم يستطع الاتحاد الأوروبي الخروج منها.
هناك رابط بين صعود التيار الشعبوي في أميركا وأوروبا لأن حركة الشارع والأزمة الاقتصادية والاجتماعية أقوى كثيراً مما يتوقع البعض.
أحد أسباب صعود التيار الشعبوي أو «التيارات المتطرفة» يعود إلى إخفاق النخب السياسية والاقتصادية التقليدية في توفير الأمن والاستقرار لشعوبها، السبب الثاني هو «العولمة» التي أدت إلى تراكم الثروات في أيدي قلة وتهميش الطبقة الوسطى والطبقة العاملة، والسبب الثالث هو «الثورة المعلوماتية» التي أدت إلى زعزعة الأفراد في المجتمعات متعددة الثقافات، كان انتخاب ترامب كرئيس للولايات المتحدة يمثل قمة الصعود الشعبوي.
حسم الاستفتاء التاريخي في بريطانيا النتيجة لمصلحة الانسحاب، دقت نواقيس الخطر في باقي عواصم الاتحاد الأوروبي، للبحث في كيفية التعامل مع «الصدمة المدوّية»، وتبدو الارتدادات السياسية المرتقبة، للخروج البريطاني، أكثر خطورة، وعنوانها العريض تفكك أوروبا «القارة العجوز»، وبات مؤكداً، أن ثمة قلقاً عالمياً على باقي دول الاتحاد الأوروبي، وخصوصاً بعدما سارعت العديد من أحزاب اليمين المتطرف الأوروبية إلى المطالبة باستفتاءات مماثلة.
أبدت مجموعة من أعضاء البرلمان الأوروبي مخاوفها من سلسلة «انهيارات على طريقة أحجار الدومينو» تقوّض الاتحاد في غضون السنوات المقبلة.
بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، أظهرت استطلاعات في السويد وإيطاليا وألمانيا وفرنسا أن نسبة مؤيدي الانسحاب من أوروبا مرشحة للتزايد بشكل مطّرد.
وستكون المرحلة المقبلة صعبة ومليئة بالمطبات السياسية والاقتصادية، فهي المرة الأولى في تاريخ الاتحاد الأوروبي الذي تقرر فيه دولة مغادرة الاتحاد.
المراقبون يشعرون بقلق بالغ على المصير الأوروبي المشترك برمته، إن خرجت بريطانيا بلا اتفاق قد تتبعها دول أوروبية أيضاً بما يهدد بانهيار الاتحاد الذي يضم 28 دولة.
مناخات الفوضى الإستراتيجية في العالم التي أججتها إدارة ترمب الشعبوية العنصرية، وأزمات الاقتصاد واللجوء والهجرة والإرهاب الذي يدعمه الغرب وحنين بعض دول أوروبا للاستعمار القديم البائد، كل ذلك أدى إلى تراجع الفكرة الأوروبية وصعود قوى شعبوية مع ما يعني ذلك من تهديد للمشروع الأوروبي بالتفكك والانهيار. وهنا السؤال: هل تصمد أوروبا العجوز؟