كتاب شعراء نائمون في غرف الغيب … في حوارات بريد السماء الافتراضي مع شعراء غادرونا وعاشوا في أزمنة وأماكن مختلفة
| سوسن صيداوي
ما بين قصدّية الذات المؤلفة الموجودة -في- العالم الواقعي، وبين قصدية الذات المؤلفة الموجودة -في- عالم النص الافتراضي، وُضع بين أيدينا بحث يقدم ضمن محادثة جدلية، حوارات افترضها وعاشها الكاتب أسعد الجبوري في مؤلفه «شعراء نائمون في غرف الغيب (حوارات بريد السماء الافتراضي)» الصادر عن الهيئة العامة السورية للكتاب، من القطع الكبير، بواقع خمسمئة وخمسين صفحة تقريباً، جمعت حوارات افتراضية لشعراء ماتوا وعاشوا في أزمان مختلفة. ولكن نحن سنقدم الإضاءة على الكتاب من خلال الشرح الشامل والوافي والمنصف لتجربة المؤلف والذي تقدم البحث وجاء به د. مازن أكثم سليمان، ومنه نحن سننطلق في التوقف عند عدة نقاط.
في نظرة عامة
لننطلق من عنوان هذا الكتاب: (بريد السماء الافتراضي) حيث سعى المؤلف أسعد الجبوري في تأسيس تجربته هذه على شكل نمط «الحوارات»، ولكن هذه الحوارات أقامها الباحث مع شعراء راحلين، واللافت في الفكرة إلى أن الشاعر بشكل إيحائي يبيّن أن الحوار تمّ مع شاعر حيّ بالمعنى الطبيعي أو الاعتيادي، ولكن في الحقيقة، الحوار هو وكما الكل يعرف مع شاعر ميت، ومن هنا يمكننا القول إن مفردة (السماء) تمنح الحالات آفاقاً لفهم معاني الغياب والمجهول والاحتمال اليقيني، على حين مفردة (بريد) توحي بوجود رسائل لابد لها أن تصل بموضوعاتها الآتية من الغيب، ما يضفي افتراضاً في عوالم النصوص المقدمة بين معارف وثقافة هؤلاء الشعراء الموتى الخاصة ضمن فضاء افتراضي يمنح الدلالات مساحة واسعة من التخيل والخلق والابتكار، وضمن عناصر ومستويات نظرية ورؤى متصارعة، تتوزع بأساليب وجودها في انسياقات الحوارات بين ما هو معتمد على الصور النمطية السائدة والشائعة لسير الشعراء الراحلين مع تداخل فانتازي ما يخلق جدلاً، عبر إعادة تشييد تلك الصور بآليات تطرح اختلافاً بين المعروف والمألوف وبين المختلف والغريب.
في الحوار المطروح
يشتغل الكاتب أسعد الجبوري في حواراته الافتراضية كناقد وباحث اجتماعي أدبي ومحلل نفسي مرة واحدة، في طريقة مبتكرة لمجموعة كبيرة من الحوارات مع الكثير من الأسماء التي احتواها الكتاب والتي نورد بعضاً منها على سبيل الذكر: أنسي الحاج، أكتافيو باث، محمد مهدي الجواهري، نزار قباني، هوميروس، محمود درويش، يوسف الخال، سعيد عقل، أحمد بركات، سنية صالح، أبو الطيب المتنبي، شارل بودليز، سركون بولص، أحمد شوقي، جبران خليل جبران… إلخ. ولابد من الإشارة إلى أنه في العادة تقوم الحوارات على مفهوم المادة الإخبارية في المعنى المتداول على تحصيل مجموعة من الأخبار والمعلومات والرؤى الخاصة بمن يُجرى معه هذا الحوار، في بث فضاءات حيوية من التجربة والتجريب والتحوّل والمفارقات الإدهاشية، التي لا تتورّع في مواضع كثيرة عن الخوض في أسئلة المسكوت عنه وغير المفكّر فيه، مع الحفاظ على جماليات الخطأ والشذوذ وسوء الفهم، التي تُبقي الحوارات قابلة للتنقيح التأويلي المفتوح وللقبول والرفض من المتلقي بما تسوقه من معان وأفكار وترميزات، تسعى إلى أن تظل مرجأة الأحكام قدر المستطاع ولاسيما أنها تبقى خارج إطار المُنكشف وتبقى في إطار المُحتجب.
الهروب من التوثيق التاريخي
بحسب ما ذكرنا أعلاه فإن د.مازن أكثم سليمان شرح في إضاءته على الكتاب شرحا وافيا، ومن تحت هذا العنوان لابد من الإشارة والإشادة في الوقت نفسه بأن المؤلف أسعد الجبوري في كتابه «شعراء نائمون في غرف الغيب (حوارات بريد السماء الافتراضي)» موضوع بحثنا، قد تنبّه إلى خطورة سقوط الحوارات في فخّ الوثيقة التاريخية، ما دفعه إلى العمل على تخليق وجودي جمالي يرتقي بالحوارات إلى مستوى الوثيقة الفنية المتجددة في كل قراءة جديدة، وهذا يُنقذنا من التمويه والالتباس، ويذهب المؤلف في تبسيط منطقها البديل لمنطق الحوارات الاعتيادية ذات الخطاب المؤسس على مركزية وعي المحاوِر ووعي المحاوَر، لنجد تحالفاً غير مباشر بالأسئلة والأجوبة بحق الوجود الاعتيادي الذي ائتلف بعد موت الشعراء واختلف مع الوجود الغيبي، وهذا الأمر يلاحظ في الطريقة الصدامية والاستفزازية لعدد غير قليل من الأسئلة التي يمكنها أن تفتح الجراح أو الحديث عن تجارب ضيوف الحوارات النصية للمؤلف، والمتعمقة في الولوج بمناخ مشكوك فيه حول تفاصيل عاشوها وبقيت طي المجهول.
في السبق الصحفي
حتى لو أن المؤلف حواراته مع شخصيات غادرتنا في الزمن والجسد، إلا أن أسعد الجبوري حقق الغاية من الحوارات عبر عدم تفويته شرطية السبق الصحفي، عندما اعتمد على فن الحوار من جهة وفن السيرة الذاتية من جهة ثانية، حيث يطوي المؤلف في حواراته سياقات حوارية لجوانب من السير لأولئك الشعراء الموتى، أو يقحمها فيها كي يفاجئ القارئ ويشوش معرفته ببعض المفارقات الخفيّة في كثير من المواضع والمعاني، لتأخذ القارئ بين وجود الشاعر الحقيقي ووجوده الافتراضي وفق مخطط تسلسلي تراكمي للأسئلة والأجوبة، ليصل القارئ إلى تمويه بين الحداثة في الطرح وبين انصهار للسير المتداولة، عبر تخارجية تخلق وتبتكر وتشوّه وتبث سوء فهم مجازياً وإيحائياً، في اتكاءات المؤلف في مواضيع كثيرة على أقنعة اعترافات، لا تبتعد عن الميل للكشف المفاجئ والصادم لأفق تُوقع المتلقي في إحضار الماضي وإخضاعه ومطابقته، بأسلوب يستحضر فيه الماضي ويحييه بوصفه حاضراً حياً ينبسط عبر أساليب الوجود المتنوعة في النصوص، حيث يقدم المؤلف معظم حواراته بمداخل غرائبية أو فنتازية وهو يصعد إلى عالم الغيب باحثاً عن أماكن إقامة أولئك الشعراء.