الحياة القادمة من عقلها الكوني المتوزّع في عقول أحيائها يملؤها بمبادئ الخمرة المثمرة والمحفّزة لتحويل الأمل إلى عمل، ولا يغدو المرء مؤمناً حتى يثمل منه، فهو ليس مجرد كلمات، ولا أعضاء تناسلية تقبل أياً كان، ولا قلباً يخفق لكل قادم.
دققوا فيما أتجه إليه، وراجعوا لغة أولئك الذين جعلوا القلب كالهنن أو الهنِ، ابتعدوا عن التأمل والتفكير في الحياة الجنسية، فهناك فرق شاسع بين أن تعترف بالحب، وأن تؤمن به، ففي الاعتراف نكران وسهل الانسحاب منه أو الاعتراض عليه، أما في الإيمان فأنت وصلته، لأنك سلكت سبله التي قادتك إليه، أي إلى اليقين به، ليتجه بك ويوصلك إلى أصلك الإنساني، لتعلم حينها بناءك الكوني.
ومنذ تخلي الإنسان عن عقيدة الحب انقسم على نفسه، وحمل صراعه بينهما، أي بين الخير والشر، فتارة ينتسب إلى هنا، وكثيراً ما نجده هناك، أي مع الشر، والذين يتخذون الحب تجدهم مع الحق والعدل، والناس مع الجمال الآسر من منبته إلى حضوره، إلى محتواه الكوني الذي لا حدود له، أما الشر فإني أمثله بالكذبة الدافعة التي يمكن أن تسير معها آلاف الأميال، قبل أن يتقدم أحد ما من المحبين المؤمنين ليظهرها كاشفاً إياها، والناس في سوادها تعشق السهل المقنع، لأن الحقيقة تحتاج إلى جهد واجتهاد للوصول إليها، وإن شرّ الناس من يبيع الناس الوهم والكذب والنفاق.
إن وظيفة الإنسان الأولى والأخيرة هي الحب، والحب يعني كل شيء في هذه الوظيفة، التي أوكلت إليه ضمن مساحة الحياة التي له منها نصيب، فهي التي تدركه، وهو الذي لا يدركها إلا بهدف، والحياة موجودةٌ عليه أن يستثمر فيها من أجل الإنسان الآخر، الحبّ شخص أهدافه غير مقرونة بالاقتناص، إنما بالنجاح وتعاطفه، لا تخرّبه القوة، وتواضعه لا ينقصه التملق، عطاؤه لطف أمين، يظهره الآخر لكونه قدم له بشكل خفي.
الحب الذي لا يهدف لشيء ليس حباً، فلا يوجد كائن حي لا يحب الخير حتى وإن كان شريراً، المجرم والشقي، الرئيس والمرؤوس، جميعهم يحبون، ولكن كيف؟ وهل يجمع الحب فيما بينهم؟ أم إنه خاصة كل موجود، يراه من منظاره؟ وأعتقد لن يكون للمرء وجود، إلا إذا انتصر بحبه على شرّه، وإن نهاية المرء مع شرّه تختلف عن أن ينتهي مع حبه، ولن يكون الإنسان ذا قيمة إلا حين ينتصر على نفسه، فالبحث يستمر لإثبات الدليل على الخطيئة القادمة من القصد المتمتع بالرذيلة، وإن الحب كرامة، ورجم الكرامة مؤلم للروح، وهذا ما يميّزه عن عقاب الجسد أو ابتزازه، فمن يكن ضد الإنسان فهو كائن ضد الحب، ضد الحياة، ومن يكن معه فهو مع الجمال، والجمال كائنٌ وكنْ المرسوم من الحب الحرّ الطليق الذي يساوي بين الطائر الصغير والحوت الكبير، وإن لكل منه مهامه، على العكس تماماً من بيت العنكبوت الذي يصطاد الذباب الصغير، ويفلت منه البقُّ الكبير.
الحب يسأل نفسه كل يوم عما ارتكبه من ذنوب، وفعله من خير، ويمنع إيذاء الإنسان أو الاعتداء عليه، أو فرزه طبقياً أو عنصرياً، على العكس تماماً من فرضية «ومن الحب ما قتل».
الحب لا يحتاج إلى قَسم كي يؤكد، ولا عبد لناسوته أو لاهوته، المشكلة تكمن في كهنوت معبده، ومن يعبد فالحب حر، يؤكد أن لا عبودية فيه، لأنه يهدم العبودية، ويدعو إلى الحرية الإبداعية، التي يسمح بها العقل، لا القلب الذي يمثل مركز الأهواء والغرائز، يدفع بها لإحداث خلل في العقل وتاريخه الإنساني الأول، الذي يتفاعل مع الرغبات في التملك، ما قاده إلى إيجاد فعل السيطرة من الإنسان على الإنسان، فرسم طرقاً للعبودية، وألصقها بالمكون الكليّ، الذي هو منها براء، بعد أن أسقط هذا الإنسان شرّه بدلاً من حبه على كل شيء، وإرادته استعباد كل شيء عبر ملكيته التي أنتجت كثيراً من مصاعب الحياة له ولغده.
في الحب لا فرق بين عقل يسكن رجلاً أسمر وآخر أبيض، ولا بين ذكر أو أنثى، لأنه يمنح فرصاً لإثبات الذات والوجود، فالحب كما المكون الكلي لا ذكر ولا أنثى، لأنه طائف فوق كل الطوائف والمذاهب والأديان، ومسكون بين العقل والقلب، وهو كما الروح الكلية الموزعة فيما بين الأحياء، تومض في العقول، وتنبض في القلوب الفرحة المؤمنة ائتلافاً عند الالتقاء وتلاقحاً بين العقول، لذلك يعتبر العقل أن الحب ليس إثماً ولا خطيئة، إنه فعل مقدس، يركع فيه المحبون، ويسجدون لبعضهم من دون استعباد اللاهوت، أو عبودية الناسوت، فلا رق ولا تمرد فيه، ولا طاعة عمياء أو تسليم، إنه اتحاد بين العقل وحواسه مع الآخر، أياً كان جنسه؛ مادةً، حيواناً، نباتاً، إنساناً، وغايته لفت الانتباه لتلك العلاقة وإنجاز إبداع وتسجيل حضور.
الحبّ لا يمتلك أدوات مادية، بل يدخل عليها كدخول النحات على الصخرة، والرسام إلى اللوحة، والقائد على شعبه، والطبيب على مريضه، لأنه أحاسيس ومشاعر وعلوم إنسانية غايته الأولى والأخيرة النجاح، فهو غير مشروط بالملكية الشخصية، التي لم تقدر مجتمعاتنا حتى اللحظة الانتباه إلى هذه الفوارق، وإنّ الحبّ غير الجنس، فأن يحب الإنسان يعني أنه امتلك لغة بصرية شاملة، لا فوارق فيها ولا تفضيل، لا بين أبنائه، ولا بين أديانه، والفضل يكون في أن يرتقي فوق الشبهات، وهذا هو بعينه الكفاح من أجل التطور والارتقاء بنفسه وبمحيطه إلى الأفضل، وإلى الأمام، من دون أن تتملكه حالة نرجسية تصل به إلى الغرور بذاته والتكبر على أقرانه أو الانفصال عنهم، فلا أنانية في الحب، وصحيح أن يقول قائل: إن الشرير يحب ويخاف على من يحب، وهنا تكمن المعضلة التي تحدث المفارقة مع الخيّر الذي يحب ويخشى، والخشية أعلى مراتب الحب، الذي يجسد الأمان والطمأنينة، فمن يخافك قليلاً فسيخافك كثيراً، ومن يحبك قليلاً فسيحبك كثيراً.
من المسؤول عن مصير الإنسان؟ سؤال ليس بالسهل الإجابة عنه، لأن عجلة الزمن تسير إلى الأمام، ونحن نمر من أصعب مراحل تاريخنا الذي نكتبه ضمن واقع لا أخلاقي، لأن عقيدة الحب أخلاق، واللاأخلاق تقودنا إلى التهوّر، فتغدو مبادئنا متربصة ببعضها خوفاً وكبتاً وجبناً، ونصبح نعاني الرواسب السالبة التي أظهرت جلّ العقد النفسية، وأصبحت نياتنا مقنعة وملتبسة، تعجّ بالأحقاد والنقمة والكيدية بدلاً من التسامح والبناء والإعمار، فكثيرون يستهينون بما يحبره الحبّ في أعماق الإنسان منذ نعومة أظفاره، فإن أحسنا متابعته كان كالثلم الذي توضع فيه بذور المستقبل، وهي بذلك تكون رسمه البادئ الذي يقرر ما سيكون عليه.
الحب عقيده، بل أهم ما وجد من عقائد، رغم أن البعض يعتبره وهماً أو حاسة أو شعوراً، ينتهي ويظهر حسب الظروف، أو حاجة تستدعيها الطوارئ من الأمور، ومنهم من يعتبره همسة أو نظرات تتبادلها المواقف، ومنهم من اعتبره ديناً فقدّسه.
السياسة والمال لا يعترفان به عند التعاطي بهما، بينما حبّ المال لا أحد يرفضه، ففي زمن انتشار التكاذب يعتبره البعض كذبة كبيرة من باب عدم بقاء الحال الذي يكون من المحال، وأنا أجزم أن الحبَّ قيمة إنسانية راقية تعتلي به الحياة، إلا أن نقيضه يتجلى في الكراهية، فسببه المادة التي تؤدي إلى إنهائه بسبب الأحقاد والضغائن والكراهية، وهي المسؤولة عن ظهور الصراعات والحروب والجريمة بشكل عام وخاص، ورغم كل ما عرضته يبقى الحب رأس الخير والحياة جسده، وهو المنتصر، أدعوكم لاتخاذه عقيدةً.