كثيرة هي العناوين والتوصيفات التي أطلقت على الجولة الثانية من اجتماعات اللجنة المصغرة حول مناقشة الدستور السوري بجنيف، والتي تراوحت بين وصفها بأن «نهايتها ظهرت قبل بدايتها» أو بأن «التفاؤل الحذر لم يدم»، ولكن التوصيف الأقرب للواقع السياسي والذي يمكن إطلاقه على ما مثله هذا الاجتماع هو استمرار التجاذب التأثيري المتبادل بين القوى المتصارعة بالميدان والسياسية في صراع التحكم بمستقبل سورية، وهذا يدفعنا نحو أسئلة ثلاثة متتالية:
* ما الذي حصل في فترة مابين الجولتين وأرخى بظلاله على هذه الجولة؟
* كيف سيتم التمهيد للجولة القادمة وضمن أي أجواء ستكون؟
* أي السيناريوهات المتوقعة لمسار اللجنة بشكل عام؟
الإجابة عن هذه الأسئلة تدفعنا نحو العودة إلى عدة معطيات وحقائق لابد من التوقف عندها: أولاً الكباش السياسي الذي شهدته مرحلة تشكيل اللجنة على مدى عامين تقريباً وخاصة إصرار النظام التركي على التمسك بفرض أسماء محددة ضمن قائمة ما يسمى المجتمع المدني، يشير إلى محاولة من اثنتين إما تحقيق إنجاز وتمثيل سياسي عجز عن تثبيته عسكرياً أو للحفاظ على قدرة التعطيل في حال لم تتلاق المصالح، ثانياً تشكيل اللجنة وإطلاق عملها كان قائماً على توافقات وتفاهمات إقليمية ودولية هشة وهذه الهشاشة ستنعكس مع كل تصعيد ميداني أو سياسي وستؤدي في الوقت ذاته لعرقلة عمل اللجنة التي باتت تشكل مرآة تعكس ذلك، ثالثاً رغم الأجواء الإيجابية التي شهدتها الجلسة الافتتاحية والتصريحات إلا أن الاختلافات في المضمون، هي جوهرية بالهدف المراد منها، فالوفد الوطني يعتبرها جزءاً من مسار سياسي، ووفد النظام التركي ومن خلفه الأمم المتحدة والمجموعة المصغرة، يعتبرونها تشكل جوهر العمل السياسي ويربطونها بالاستحقاقات الانتخابية القادمة.
• بالعودة إلى التطورات التي شهدتها الجغرافية السورية والإقليمية والسلوك للفاعلين السياسيين في فترة استراحة ما بين الشوطين، إن صح التعبير، كفيلة للإجابة عن السؤال الأول، حيث إن هذه التطورات شكلت مؤشراً مبكراً لانتكاسة الجولة الثانية، وتمثلت في:
1- خفايا المخرجات السياسية للاجتماع الذي حصل بين رئيسي النظامين التركي والأميركي في واشنطن منذ ما يزيد على أسبوعين، وعدم اتضاح ما تم الاتفاق عليه حول سورية في أروقة قاعة الاجتماعات، وهو ما أثار ريبة موسكو وحذرها.
2- قدرة مؤسسات الدولة العميقة في احتواء قرار ترامب بالانسحاب من سورية، وتأثير ذلك في مفاعيله السلبية على سلسلة التوافقات التي كان من المتوقع حدوثها بإشراف روسي، سواء من خلال العودة للعمل باتفاق أضنة أم بتوسيع دائرة التفاهمات بين حكومة دمشق وميليشيات قسد، فضلاً عن تأثير احتواء هذا القرار بمحاولة إفراغ الإنجاز السوري في استعادة مساحات شاسعة من المنطقة الشمالية الشرقية من مضامينها الاقتصادية والدبلوماسية.
3- التدخل الواضح في عمل اللجنة وتمثل بثلاث نقاط:
– اجتماع المبعوث الأميركي الخاص لسورية جيمس جيفري مع وفد ما يسمى الائتلاف وكذلك بعض أعضاء وفد لجنة النظام التركي والمجتمع المدني في اسطنبول، بحضور رئيس الائتلاف أنس العبدة، الذي شكل وجوده في المؤتمر الصحفي النهائي لاختتام الجولة الأولى انتهاكاً لقواعد الإجراءات ومدونة السلوك والطلب إليهم محاولة تحقيق خرق خلال الجولة الثانية والإسراع في انتهاء اللجنة قبل انتخابات 2021 وتوجيه تهديد مبطن لكل عضو يوافق على انتقال عمل اللجنة من جنيف لدمشق.
– مشاركة عضو اللجنة المصغرة عن المجتمع المدني صباح الحلاق في جلسة لمجلس الأمن وإلقاؤها كلمة هناك بطلب وغطاء بريطاني.
– الاتهام الأميركي المستعجل للحكومة السورية بتحميلها مسؤولية إخفاق الجولة الثانية.
4- الضغط الأميركي الفرنسي البريطاني على منظمة حظر الأسلحة الكيميائية في دورتها ٢٤ لحضور تنظيم «الخوذ البيضاء»، ولإنهاء التقرير الذي تعده لجنة التحقيق لاتهام الدولة السورية باستخدام الأسلحة المحرمة، رغم تسريب صحيفة «ديل ميلي» البريطانية لإحدى المراسلات الإلكترونية التي تعود للمنظمة تؤكد تزوير الاتهام لتسويغ العدوان الثلاثي على سورية منتصف نيسان 2018.
5- التطورات الفوضوية التي تشهدها الدول المجاورة جغرافياً لسورية وإدارتها وفق الرؤية الأميركية لزيادة الحصار على دمشق اقتصادياً.
• أما بالنسبة لموعد وشكل الجولة القادمة، فإن ذلك يتوقف على جهود المبعوث الدولي إلى سورية غير بيدرسون الذي هو اليوم أمام عدد من التحديات الصعبة، بعضها وضع نفسه بها، وخاصة أن بيدرسون نسب نجاح الجولة الأولى من عمل اللجنة إليه ولدور الأمم المتحدة، في إشارة لتغيب الدور الروسي على الصعيد الثنائي مع تركيا وضمن محور أستانا هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن التحذير الروسي اللافت في توقيته مع انطلاق الجولة الثانية من الاجتماعات للمبعوث الدولي «بالحذر من التدخلات الخارجية كمحاولة لفرض حلول من الخارج على السوريين» لم يأتِ عن عبث ومصادفة، بل كنتيجة امتلاك موسكو ودمشق لمعلومات عن هذا التدخل، لذلك جاء تصريح رئيس هرم الدبلوماسية الروسية سيرغي لافروف محدداً وموجهاً للأمين العام للأمم المتحدة ولمبعوثه الدولي «للتصدي لذلك بكل حزم» وهو يصب في اختبار روسي لجدية الأمم المتحدة بلعب دور موضوعي.
وفق هذا التداخل فإنه من غير الممكن عقد جولة جديدة قبل اجتماع أستانا القادمة أولاً، وفي انتظار ما سيتمخض عن اجتماع بوتين مع أردوغان باسطنبول خلال الأيام القادمة والذي سسيسبقه اجتماع بين بيدرسون مع وزير الخارجية الروسي بناء على طلب من الأول ثانياً، وهذا قد يدفع بيدرسون للقيام بجولة دبلوماسية مكوكية مجدداً تدفعه لزيارة موسكو وأنقرة ودمشق، وفي الوقت ذاته قد نشهد عودة لتسخين جبهات الميدان وخاصة في محافظة إدلب سواء من خلال احتمال إقدام المسلحين على استخدام الكيميائي واستهداف المناطق الآمنة ونقاط للجيش السوري وقاعدة حميميم، أو قد نشهد عودة الحراك العسكري السوري في ظل الكباش والتعطيل الحاصل.
• الإجابة عن السؤال الثالث تجعلنا نقف عند حقيقة لا لبس فيها وهي أن الأمم المتحدة كمنظمة دولية بغض النظر عن موضوعيتها ومبعوثها الخاص وكذلك ما يسمى المجموعة المصغرة، هي الأكثر تمسكاً بالحفاظ على استمرار مسار لجنة مناقشة الدستور، ليس انطلاقاً من حرصهم على إنجاز عملية سياسية في سورية ولا لتحقيق مصالح الشعب السوري، بل لأن انهيار هذا المسار سيعني من جانب فتح المجال أكثر لمحور أستانا وروسيا بشكل خاص للإمساك بزمام المبادرة، ومن جانب آخر انتهاء أي دور جغرافي أو تأثير لهم في المشهد السياسي السوري.