لم يكن مفاجئا الفشل الذي انتهت إليه الجولة الثانية من اجتماعات اللجنة الدستورية المصغرة وأعلنه صراحة المبعوث الأمم غير بيدرسون بعد عدم تمكنه من عقد أي جلسة مشتركة بين أطراف اللجنة الثلاثة على مدار خمسة أيام.
الواضح مما جرى في كواليس قصر الأمم المتحدة في جنيف على مدار الخمسة أيام التي كان يفترض أن تجري خلالها جلسات عمل يشارك فيها أعضاء اللجنة، أن إصرار وفد «المعارضات» على القفز عن القواعد الإجرائية الناظمة لعمل اللجنة والمتضمنة بأن تكون «مملوكة لسورية وبقيادة سورية ورفض التدخل الخارجي والإملاءات والجداول الزمنية لعملها»، وكذلك قفزه عن ما تضمنته مدونة السلوك الخاصة بأعضاء اللجنة التي تم الاتفاق عليها في الجولة الأولى، ورفضه مناقشة جدول الأعمال المقترح من الوفد المدعوم من الحكومة السورية والمتضمن مجموعة من الثوابت الوطنية تتمثل بالتمسك بوحدة الأراضي السورية والسيادة ورفض الاحتلال والمشاريع الانفصالية والإرهاب، شكل العمل الرئيس في إفشال الجولة.
ما بدا أكثر وضوحاً، أن الهوة عميقة للغاية بين مواقف أطراف اللجنة الثلاثة ومتباعدة لدرجة يمكن للبعض الاستنتاج أن تلك الأطراف لا يمكن أن تتلاقى على قاعدة مشتركة تنطلق منها لمناقشة مواد الدستور وهي المهمة المنوطة باللجنة، فالوفد المدعوم من الحكومة يعتبر أن ما تضمنه مقترحه، هي مبادئ يجمع عليها الشعب السوري، على حين يدل رفض وفد «المعارضات» لهذه الثوابت على موافقة صريحة لبقاء الاحتلالين الأميركي والتركي وتأييده للتنظيمات الإرهابية.
بات من البديهيات، أن مواقف وفد «المعارضات» القديمة الجديدة والتي عرتها أكثر مجريات الجولة الثانية من اجتماعات «الدستورية المصغرة»، ليست من رأسه وإنما هي إملاءات لمشغليه من دول غربية وإقليمية معادية لسورية، ما يعني أن النقاشات التي يفترض أن تجري بين سوريين خلال اجتماعات اللجنة ستجري بين سوريين ودول طالما ناصبت العداء لسورية وسعت لتدميرها، على غرار ما جرى في اجتماعات مسار جنيف.
المتتبع لجولات المحادثات التي جرت في إطار مسارات التسوية سواء في جنيف أو أستانا أو سوتشي يلاحظ أن ما نتج عن كل تلك الجولات ارتبط ارتباطاً وثيقاً مع نتائج المعارك الجارية في سورية بين الجيش العربي السوري والدول الداعمة للإرهاب وأدواتها، فقبيل كل جولة وأثناء انعقادها كانت كل من أميركا والنظام التركي ومشيخات الخليج توعز لأدواتها على الأرض التصعيد ميدانياً على أمل تحصيل تنازلات سياسية من دمشق على طاولة المحادثات، الأمر الذي كانت دمشق وحلفاؤها في كل مرة يتمكنون من إفشاله وقطع الطريق على هؤلاء للضغط عليها سياسياً انطلاقاً من الميدان.
في المقابل دمشق وحلفاؤها أيضاً تعاملوا بالأسلوب نفسه، إذ لوحظ بالتزامن مع الجولة الثانية من اجتماعات «الدستورية المصغرة» تمكن الجيش العربي السوري من تحرير الكثير من البلدات والقرى في ريف إدلب الجنوبي من التنظيمات الإرهابية المدعومة من النظام التركي الذي كانت أدواته السياسية موجودة في كواليس قصر الأمم المتحدة بجنيف ضمن وفد «المعارضات»، لترسل لهذا النظام رسالة بليغة مفادها بأن «اتفاق سوتشي» الخاص بمنطقة خفض التصعيد بإدلب ومحيطها الذي يماطل ويراوغ في تنفيذه منذ أكثر من عام يمكن لدمشق وحلفائها تنفيذه بالنار في حال إصراره على عدم تنفيذه بالطرق السياسية.
يبدو من تصريحات بيدرسون التي أعلن من خلالها فشل الجولة الثانية من اجتماعات «الدستورية المصغرة»، أنه يعي معادلة تلازم النار مع السياسة الجارية، ولذلك أبدى تعويلاً على أطراف عملية «أستانا»: روسيا وإيران والنظام التركي، في تقريب مواقف أطراف اللجنة خلال الجولة المرتقبة من هذا المسار في العاشر من الشهر الجاري، وقد يكون هذا التعويل رسالة إلى نظام أردوغان خصوصاً أن الدائرة تضيق أكثر فأكثر على أدواته الإرهابية والسياسية.
خلاصة القول: مع إقرار الأعداء قبل الأصدقاء بتمكن الدولة السورية من إفشال مؤامرة تلك الدول ضدها وأنها باتت في الربع ساعة الأخيرة من إعلان الانتصار النهائي على الحرب الإرهابية التي تشن عليها منذ سنوات، مستبعد لا بل من المؤكد أن دمشق لن تتراجع قيد أنملة عن ثوابتها الوطنية ولن تسمح إطلاقاً لأي كان سواء دولة أو «معارضات» المس بتلك الثوابت وتحقيق ما عجز عنه في الميدان من خلال السياسة، وستواصل لا بل ستكثف العمل بمعادلة تلازم النار مع السياسة لإكمال الانتصارين الميداني والسياسي.