يوم الرابع عشر من نيسان عام 1915 كانت السيدة حنينه دوماني زوجة الوجيه البيروتي يوسف الهاني تقف أمام جمال باشا السفاح طارحة أمام قدميه حليها الثمينة، عارضة عليه في الآن ذاته، بأن تصرف أثمانها على أيتام الجنود الأتراك المقتولين افتداء لزوجها الذي كان قد صدر عليه حكم الإعدام بتهمة الخيانة العظمى بعد أن اعترف هذا الأخير أمام الوالي بتوقيعه لعريضة تتضمن التماس مساعدة فرنسا لفصل سورية ولبنان عن الدولة العثمانية.
في حينها أجاب جمال باشا السيدة حنينه دوماني: «خذي حليك واصرفي ثمنها على تعليم أبنائك حب وطنهم»، وفي اليوم التالي لتلك الحادثة كان إعدام الهاني في بيروت.
في الأول من أيلول الماضي كان الرئيس اللبناني ميشيل عون يلقي كلمة بمناسبة مئوية قيام دولة لبنان الكبير، وفيها مضى هذا الأخير إلى التمييز بين الاحتلال العثماني وبين «النفوذ الفرنسي» الذي خضع له كل من لبنان، وكذا سورية، على امتداد ربع قرن بين العامين 1920-1945، الأمر الذي أدى إلى استنفار جهات عدة ثقافية ودينية لبنانية رداً على ذلك التمييز، وهو رد، أياً تكن الصورة التي جاء عليها، يكشف عن جمر متقد تحت الرماد يرى مضرموه أن المقياس الذي قاس به جمال باشا مفهوم «الوطنية»، الذي كان يحرسه، لا يزال صالحاً للاستخدام بل يمكن المحاسبة من خلاله لـ«يوسف الهاني» الذي يمكن أن يبرز، أو هو برز فعلاً، في هذا العصر.
فيما بين الحادثتين كان هناك الكثير من التشظيات التي طالت الهوية والكيان تبعاً للمآلات التي كانت تستولدها مسارات الأحداث، وفي ذاك يمكن لحظ العديد من الظواهر مثل «حراس الأرز» الذي أسسه أتيان صقر عام 1975 عبر استلهام روحية أفكار الراحل سعيد عقل، وهو، أي تنظيم حراس الأرز، كان قد قرأ الجغرافيا اللبنانية على أنها انغلاق على ما وراء الجبل، أي سورية، وانفتاح على ما وراء البحر، أي إسرائيل، بينما «تلاقحت» مناهج الناصرية العروبية التي بدت عاجزة عن البروز بشكل فاعل مع تيارات استحوذت عليها صبغة المال السعودي بفعل عوامل الهزيمة والعجز والمال، أما تيارات اليسار بكل مشاربها فقد مضت هي الأخرى نحو لبوس الليبرالية الغربية الجديد ضاربة عرض الحائط بكل مناهجها السابقة، واللافت هنا هو أن ذاك اللبوس كان من النوع الناسف لكل هذه الأخيرة حتى ليصح توصيفه أنه كان أشبه بذاك الذي يرتديه لاعبو السيرك الذين يكمن جل همهم في الإثارة والإدهاش.
يحسب للبيئة اللبنانية قبل أن تصبح كيانا ذا سيادة على يد الجنرال الفرنسي هنري غورو في أيلول 1920، أنها كانت خلاقة وحيوية لأسباب عدة منها إرثها الحضاري الثر وموقعها الجغرافيا على شواطئ البحر المتوسط وأنها الخزان الذي لا يكل ولا يمل في استيلاد الحضارات، والأسطورة الفينيقية تقول: إن «أوروبا» ليست سوى ابنة «آجينور» ملك صور التي خطفها زيوس، ومنها أيضاً فكر الكنيسة المارونية الذي استطاع تجاوز إشكالية منهج «النساطرة» الذي قال بطبيعة واحدة للسيد المسيح هي الطبيعة الإلهية عبر القول بطبيعتين كان يحملهما هذا الأخير هما الإلهية والبشرية في آن واحد، كان ذلك تلافياً لفكر «اوغسطين» النسطوري الذي شكل نذيراً بسقوط روما في الربع الأخير من القرن الخامس الميلادي، ولذا لم يكن غريباَ أن تشهد الجغرافيا اللبنانية ولادة أولى المحاولات الجادة لإنتاج حركة وعي قومي عروبي مناهض للعثمانيين تمظهر بأول مظاهره السياسية الفاعلة في «الحركة الفكرية» التي تأسست عام 1877 في بيروت والتي كانت جامعة لـ«سنة» الشمال و«شيعة» جبل عامل ولموارنة بيروت، ولم يكن غريباً أيضاً أن تلك الحركة كانت مدركة لأهمية التمدد نحو عمقها في الشرق فكانت التلاقيات مع دمشق وحوران وجبل العرب وحمص وحماة واللاذقية، وربما كان نجاح تلك التجربة الذي تعزز عبر استثمار رياح الخارج الأوروبي الساعي آنذاك في إجراءات «دفن» الرجل العثماني المريض، هو الذي دفع سريعاً إلى استخلاص النتيجة التي تمثلت بسرعة الإعلان عن قيام دولة لبنان بعد أقل من شهرين على دخول غورو دمشق في استقراء سياسي يستحضر أن وجود هذا الأخير في بلاد الشام سيكون «أهنأ» بعيد خطوته السابقة الذكر.
بشكل ما يمكن قراءة الحراك الذي شهده لبنان والذي جاء بعد أكثر قليلاً من أربعين يوماً على خطاب مئوية لبنان، حالة ممكنة لاستعادة خطاب «الحركة القومية» العابر للطوائف والحدود، إلا أنه من الراجح ألا تستطيع تلك الحالة تحقيق النجاح الذي حققته سالفتها، بفعل تعقيدات المشهد الإقليمي التي ستفرض اللجوء إلى حلول مجتزئة من شأنها الحؤول دون حدوث الانفجار، والمؤكد الآن أن المناخات الإقليمية والدولية ليست حاضرة لتعديل الطائف، ولذا يمكن تلمس مسعى خارجي حثيث الآن يمضي نحو نسف ما يمكن توصيفه بـ«التعديلات الشفوية» على الطائف التي أحدثها اتفاق الدوحة الذي تلا أحداث 7 أيار 2008 في بيروت، والتي كانت بشكل مؤكد إبعاداً للبنان عن دخول العصر الإسرائيلي.