لا يبدو أن الشرق والشمال السوريين ماضيان نحو حال من الاستقرار أو حتى «الستاتيكو» الذي يرمز إلى حال السكون المؤقت، وهو ما لم تستطع حتى الآن أن تفرضه المعادلات العسكرية ولا حدة الاستقطابات الإقليمية والدولية التي يسجل لها اليوم أنها باتت الأكثر حدة مما كانت عليه إبان الأزمة اليوغسلافية 1991-1999، الأمر الذي يفسر انهيار اجتماعات اللجنة المصغرة لانجاز الدستور أواخر الشهر الماضي، على الرغم من أن لذلك أسباب داخلية أيضاً، إذ يبدو من الطبيعي ألا تمضي السياقات داخل اللجنة سريعاً إلى عكس ما أفضت إليه، فالطرفان مثقلان بعبء أزمة تمتد إلى ما يقرب من تسع سنوات، ناهيك عن أنهما يتبنيان تصورات مختلفة عن المستقبل وما يجب أن تكون عليه «سورياهم»، والشاهد هو أن هذا التباين لا ينفصل عن تدخلات الخارج التي يعمد الجميع إلى إدانتها لكن الجميع أيضاً يمارسها بشكل أو بآخر وإن كانت هناك تلونات لذلك التدخل تبعاً لأساليب السياسة وطبيعة المصالح.
يثقل على الأزمة السورية اليوم عاملان اثنان يلوحان من بعيد أوّلهما هو بوادر اختلال النظام العالمي الأحادي الذي ساد في أعقاب انهيار الاتحاد السوفييتي والحضور الطاغي لثقل الجغرافيا السورية فيه حتى لتظهر العديد من المؤشرات أن رهان كل اللاعبين ينصب على حضور ولادة النظام الدولي الجديد من بين ثنايا تلك الجغرافيا التي تأكد أنها الأهم من النوع الراسم لوجه الأمن الإقليمي وبشكل ما الدولي أيضاً، أما ثانيهما فهو يتمظهر في الانزياحات التي شهدها نظام القطبية الأحادي منذ ولادته وصولاً إلى تمزقاته الراهنة، فروسيا اليوم ليست روسيا الأمس أيام الأزمة اليوغسلافية، والصين بواقعها الراهن والمتحفز هي غيرها قبل ثلاثة عقود، ناهيك عن تراجع في الثقل الأميركي العالمي استدعى تغيراً في الأولويات وإن كانت هذه الأخيرة لا تحظى بإجماع الداخل الأميركي أو بمؤسساته الفاعلة في صناعة القرار مما يمكن تلمسه في الصراع البادي للعلن ما بين البيت الأبيض وبين ما يمكن تسميته بالدولة العميقة الأميركية.
في بيان نشرته صحيفة «النبأ» في 8 من شهر تشرين الثاني الماضي أحصت فيه هذه الأخيرة عدد العمليات التي قام بها تنظيم داعش خلال أسبوع من صدور البيان الذي نعى فيه هذا الأخير مقتل زعيمه أبي بكر البغدادي، جاء فيه أن عدد تلك العمليات قد بلغ 37 عملية توزعت على 23 في دير الزور و8 في الحسكة و2 في حلب 4 في حوران، هذا الحضور الطاغي من جديد للتنظيم لا يعود فقط للعامل الذاتي الذي استحضرته محاولة هذا الأخير إثبات وجوده ما بعد مقتل زعيمه والقول: إن القدرات لا تزال تتيح المجال أمام تنفيذ العديد من العمليات التي لا تزال تمثل تهديداً حقيقياً، وإنما تعود أيضاً إلى أن الغرب وأجهزة استخباراته لا يزال يرى إمكان الاستثمار في دور التنظيم بشكل مؤثر قادر على إحداث التحولات سواء أكان في رسم الخرائط على الأرض أو بالضغط على طاولات التفاوض التي يبدو أنها ستشهد الكثير من الضغوط في المرحلة المقبلة، فالسياسة التي اعتمدها الغرب، وعلى وجه الخصوص الولايات المتحدة، في التعاطي مع خطر الإرهاب الذي تمثله الجماعات الإسلامية المتطرفة لم تكن في يوم من الأيام من النوع الاستئصالي الهادف إلى اقتلاع التهديد من جذوره، وإنما العمل على احتوائه والاستثمار فيه، ولا أدل على ذلك من اتباع سياسات استهداف القيادات الذي اقتصر في كل الحالات على الدائرة الضيقة المخولة بصناعة القرار من دون تركيز يذكر على استهداف القواعد خصوصاً منها القيادات الميدانية التي كانت تشكل على الدوام حالة حاضرة لإنتاج بدائل جاهزة للفاقد من القيادات، والغرب مدرك جيداً أن ضرب القيادات لن يكون ذا أثر كبير على قوة أو مسار تلك التنظيمات التي تبني مصادر قوتها في السيطرة على قاعدة «الحكم على الأرض» ولا أدل على ذلك من السرعة في اختيار خليفة للبغدادي بعد مقتله في غضون أيام، وفي ذاك يمكن تشبيه تلك السياسة بقطع رأس «الهيدرا» الذي يؤدي عادة إلى تحفيز الجسد على إنتاج العديد من الرؤوس وبالتالي إنتاج العديد من «الهيدرات» التي تملك نفس خصائص الهيدرا الأم.
منذ أن أطلق الرئيس الأميركي دونالد ترامب تغريدته الأولى بشأن الانسحاب الأميركي من سورية أواخر العام الماضي حدثت ثلاثة تراجعات عن ذلك التوجه، كان ذلك بفعل حالة تشاد فرضها تغير المنظور ما بين رأس هرم السلطة وبين المؤسسات الحاكمة فيها، وكذا بفعل مواقف الأوروبيين الذين عملوا من خلال هذه الأخيرة على فرض تغييرات في مواقف ترامب، والمؤكد أن تلك المساعي قد نجحت إلى حد ما إلا أن القلق لا يزال يراود أولئك بفعل تردّد ترامب بل ويعيشون حالة ترقب لا يعرفون فيها متى يطلق هذا الأخير تغريدته التي يعلن فيها عن طيِّ أشرعته معلناً الرحيل الذي سيكون نهائياً هذه المرة، وعندها لن يكون للوجود الأوروبي، الذي تقول تقارير إنه الآن بحجم 400 جندي فرنسي وبريطاني موجودون في سورية، أي تأثير يذكر أو بمعنى آخر لا خيار له سوى طيِّ الأشرعة والرحيل أيضاً، لأن ذلك الوجود ببساطة مرتبط عضوياً بالوجود الأميركي في سورية الذي يستمد عمقه من الدعم اللوجستي الذي تقدمه له قواعده في العراق.
هذه الحالة تفسر سعي الأوروبيين، ومعهم قوى داخلية أميركية، إلى العمل على تظهير خطر داعش من جديد، تماماً كما حاول الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في مؤتمره مع نظيره الأميركي في لندن 3 من الشهر الجاري على هامش اجتماعات الناتو عندما قال: إن داعش لم يهزم بعد، وعلى الرغم من أن الوقائع تؤكد صحة ما خلص إليه ماكرون، وأن داعش لا يزال حاضراً بين ظهرانينا، إلا أن ما يرمي إليه ماكرون ليس كرهاً بداعش بل حباً بـ«قسد» التي قامت مشروعيتها على محاربة هذا الأخير، وإذا ما كانت النيات سليمة فلماذا يحصر قتال داعش بفصائل قسد؟ لماذا لا تكون هناك بدائل أخرى كالجيش السوري أو حتى العشائر العربية؟ خصوصاً بعدما أدى الدور الذي تمارسه «قسد» إلى تدخل عسكري تركي جاء على ثلاث مراحل والراجح أن تكون هناك رابعة قد لا تكون الأخيرة، على العكس من ذلك يسعى الأوروبيين كما تشير تقارير إلى تزويد «قسد» بمصافي نفط متنقلة لكي لا تضطر الأخيرة إلى بيع النفط الذي لا تستطيع تكريره إلى الحكومة السورية، فيما تقارير أخرى تؤكد تشجيع هؤلاء إلى تهريبه عبر الحدود التركية.
ما خلص إليه اجتماع الرباعية الذي انعقد على هامش اجتماعات الناتو الأسبوع الماضي، وهو ضم إلى جانب تركيا كلاً من فرنسا وألمانيا وبريطانيا، عبر تأكيده على ضرورة بدء أعمال اللجنة المصغرة المعنية بالدستور السوري قبيل نهاية العام الجاري، لا يعني سوى شيئاً واحد هو محاولة اجتزاء الحلول، أو بمعنى آخر حرمان دمشق من أوراق قوة يمكن أن تمتلكها بعد السيطرة على إدلب التي تبدو قريبة الآن، وحرمانها أيضاً من استثمار التحولات الحاصلة شرق الفرات والتي ستكون بحاجة إلى وقت لتحويلها إلى فعل سياسي يتراكم في جعبة دمشق، والراجح هو أن ما خلصت إليه الرباعية لن يكون في متناول أضلاعها.
جولة أستانا المقرر انعقادها هذا اليوم ستكون مثقلة بالكثير، ونتائجها ستكون مرهونة بالحمولات التي جاء بها أردوغان من اجتماعات «الناتو» في لندن وتالياً من لقائه بترامب، ثم من النتائج التي أقرها اجتماع الرباعية سابقة الذكر على هامش ذلك الاجتماع، لكن الراجح وفق العديد من المؤشرات أن تكون هذه الجولة مراوحة تمكن الأطراف من تجميع الأوراق ومراجعة الحسابات، ومن ثم التقاط الأنفس قبل أن يحين موعد تحديد الخيارات من جديد.