السوريون عرفوا نظام الدولة منذ الألف الثاني قبل الميلاد … شكّلت الممالك الآرامية منعطفاً مهماً في التاريخ السوري العريق
| المهندس علي المبيض
تتميز سورية بموقعها الإستراتيجي على مفترق القارات الثلاث وهي جزء من إطار جغرافي وتاريخي أكبر هو بلاد الشام، أتاح لها موقعها المهم وخلال حقب التاريخ المختلفة أن تلعب دوراً محورياً في نشوء الحضارات الإنسانية، وكانت لاعباً أساسياً في مجريات الأحداث المختلفة التي مرّت ليس على سورية وحسب بل على بلاد الرافدين والأناضول وبقية بلاد الشام والجزيرة العربية ووادي النيل.
كما تميزت سورية بوجود إنساني قديم جداً قدّم خلاله السوريون العديد من الإنجازات الحضارية الكبرى والتي شكّلت خطوة مهمة في إطار الاستقرار البشري على صعيد العمران والزراعة وأقنية الري وطحن القمح وتدجين الحيوان وعلى صعيد التجارة والصناعة والموسيقى والأبجدية والثقافة ونشوء الدول.
شهدت بلاد الشام خلال الألفية الثالثة والثانية قبل الميلاد قيام حضاراتٍ كثيرة عريقة: الكنعانيون، الأموريون، الفينيقيون، الآراميون… وغيرها، وكل حضارة من تلك الحضارات قامت على أنقاض الحضارة التي سبقتها وكانت امتداداً وتطويراً لها، وشكلت الحضارة الآرامية منعطفاً مهماً في التاريخ السوري الحافل مع أن المعلومات المتوافرة عن طبيعة الحياة في الممالك الآرامية مستقاة من المصادر الآشورية ومن النقوش الآرامية التي هي في معظمها نقوش نذرية وأدعية إضافة لبعض النقوش التي عثر عليها في مملكة ماري حيث تضمنت ذكر بعض الأحداث المرتبطة بالممالك الآرامية وكيف كانت علاقتها مع بعضها، فمن هم الآراميون؟
يرجح كثير من الباحثين أن الآراميّين هم قبائل بدوية رحّل استوطنت بلاد الشام وتنقّلت بقطعانها من مكان لآخر منذ الألف الثاني قبل الميلاد، ويعود نسبهم حسب ما ورد في العهد القديم إلى آرام بن سام بن نوح «سفر التكوين 23:10» انتقل الآراميون في القرن الحادي عشر قبل الميلاد من حياة التنقل والترحال إلى حياة الاستقرار والتمدن ونتيجة لاستقرار الآراميين في عدة مناطق في سورية وبلاد الرافدين فقد أمسكوا بزمام السلطة والحكم وشكّلوا ممالك مستقلة عن بعضها البعض وفي بعض الفترات كانت على خلاف ولم تكن على وفاق لكنها كانت متجانسة في اللغة والحضارة والعقيدة، كما اعتمد الآراميون في الجزيرة السورية لإقامة حكمهم على النظام الملكي، وقد توزعت مجموعة من الممالك الآرامية في المناطق الداخلية لبلاد الشام ومن أهمها:
مملكة آرام دمشق وعاصمتها دمشق كانت سيدة الممالك الآرامية وعقلها المفكر وقلب مقاومتها ورمز صمودها وقد بسطت نفوذها على مساحات واسعة.
مملكة بيت رحوب عند مجرى نهر الليطاني الأوسط.
مملكة فدان آرام وعاصمتها حران.
مملكة صوبا ومعناها النحاس بالسريانية نحشا وتقع بالقرب من بلدة عنجر في سهل البقاع.
مملكة آرام حماة في منطقة العاصي الأوسط وعاصمتها حماة.
مملكة بيت أجوشي في منطقة حلب وعاصمتها أرباد وهي تقع على مسافة 25 كم شمال غرب حلب «تل رفعت حالياً» بالقرب من بلدة أعزاز.
مملكة آرام النهرين «أي نهري الفرات والخابور».
مملكة بيت عديني في الجزيرة السورية وعاصمتها تل بارسيب وهي تقع على مسافة 20 كم جنوب جرابلس «تل أحمر حالياً» واتسعت هذه المملكة حتى نهر البليخ.
مملكة شمأل وتقع في أقصى شمال غرب سورية على سفوح جبال الأمانوس وعاصمتها تقع بالقرب من منابع النهر الأسود «حالياً زنجرلي».
مملكة بيت بخياني أو باحياني في بلاد الرافدين في حوض الخابور وعاصمتها جوزانا «تل حلف حالياً» جنوب غرب بلدة رأس العين.
مملكة بيت زماني في بلاد الرافدين على ضفاف نهر دجلة وعاصمتها آمد «ديار بكر حالياً».
مملكة بيت داكوري ومملكة بيت أموكاني ومملكة بيت ياكين في بلاد بابل.
ويعتبر موقع عين دارة غرب حلب على طريق اعزاز عفرين من أهم المواقع الأثرية الآرامية التي تحمل آثار النزاع مع الحثيين، يحيط بالمدينة سور منيع مبني من الحجارة واللبن، أما البوابة الرئيسية للمدينة فتقع عند تمثال أبو الهول الآرامي «الأسد المجنح» ولابد من الإشارة إلى أن هذا الموقع كان مأهولاً في جميع العصور حتى عصر الحمدانيين.
أقام الآراميون مدنهم في مناطق مرتفعة محصنة بشكل طبيعي تحيط بها أسوار منيعة كما اهتمّ الملوك الآراميون بتحصين المدن وتطوير المنظومة الدفاعية لها وبناء القصور الضخمة والمعابد المسورة والواجهات الكبيرة وقد درجوا على تزيينها من الخارج بالتماثيل والنقوش والزخارف، كما شكّل البيت محور الحياة الأسرية في المجتمعات الآرامية، ونظراً لكون أصل الآراميين بدواً رحّــلاً قبل إنشاء ممالكهم فقد كانت الخيمة هي البيت الأول الذي أقامه الآرامي في حله وترحاله،
ويعد الطين المادة الأساسية لبناء المسكن في أغلب الممالك الآرامية، وكان هناك أكثر من شكل للبيت فهناك البيوت الطينية القببية التي ما زالت تستخدم في بعض مناطق سورية حتى الآن وهناك بيوت ذات سقوف طينية مسطحة وتفاوتت البيوت فيما بينها من حيث الحجم والمساحة وعدد الحجرات وذلك تبعاً للحالة المادية لمالك البيت ووظيفته الاجتماعية والطبقة التي ينتمي إليها.
وأظهرت الوثائق التي تم العثور عليها في الممالك الآرامية التي قامت في منطقة الجزيرة السورية وجود جداول إحصائية لعدد السكان في كل مدينة أو قرية وعدد أفراد الأسرة وأسمائهم وما أعمالهم وجرد ممتلكاتهم بالتفصيل، وذلك من أجل تحديد من يجب عليه من السكان دفع الضرائب أو الإعفاء من دفعها، وهذا يعكس نظاماً ضريبياً متطوراً نسبياً ووجود مؤسسات متخصصة بهذا النوع من العمل وموظفين لحساب الضرائب وجباية الأموال وحساب الميزانية وتصنيفها ووضع خطط لصرفها وهذا بالطبع يقتضي دراسة دخل الفرد واحتياجات المجتمع الآرامي وإقامة المشاريع اللازمة لتنشيط العمل والثقافة والفنون والصناعة والزراعة والتعليم وسن قوانين وتشريعات تفي باحتياجات المجتمع الآرامي وهذا يؤكّد أن السوري هو أول من عرف وجود الدولة منذ الألف الثاني قبل الميلاد وقدّمها للعالم.
تعرف اللغة التي تكلّم بها الآراميون باللغة الآرامية وهي لغة السيد المسيح، واصطلح على تسميتها وتصنيفها ضمن اللغات السامية، وهي لغة حيّة تطورت من لغة مجتمع بدو رحّل إلى لغة مجتمعات حضارية مستقرة، ولا يزال أبناء بعض المناطق في سورية يتحدثون بها حتى اليوم كمدينة معلولا والصرخة «بخعة».. وقد فرضت اللغة الآرامية نفسها على المنطقة نظراً لسهولة تعلمها وبساطة أبجديتها وقواعد نحوها وصرفها، ومما ساعد على انتشارها إلى مناطق بعيدة أنها كتبت بالأبجدية الكنعانية الفينيقية إضافة لدور التجار الآراميين الذين عملوا في العديد من بلدان الشرق القديم والذين أسهموا بشكل كبير في انتشار لغتهم، ولا بد من الإشارة إلى براعة الآراميين في المجال التجاري والثقافي، وقد تفوقوا بذلك على نشاطهم السياسي والعسكري كما ساعد استخدام اللغة الآرامية كلغة مشتركة بين التجار البابليين أيضاً على الحفاظ على اللغة وزيادة انتشارها، وبحلول القرن الثامن قبل الميلاد استخدم الآشوريون اللغة الآرامية كلغة ثانية وفي فترة ازدهار التجارة الآرامية كان عدد المتكلمين بالآرامية في بلاد آشور أكثر من المتكلمين باللغة الآشورية، حيث لعب الآراميون دوراً تجارياً متميزاً ومما ساعدهم في انتشار لغتهم وثقافتهم وفنونهم براعتهم في التجارة ونشاطهم الواضح في هذا المجال فانتقلت اللغة الآرامية مع التجار وغدت لغة الثقافة والدبلوماسية وحلت مكان البابلية والكنعانية والآشورية، ويبدو تأثير ذلك واضحاً حيث حصل الأرمن والفرس والهنود على أبجديتهم من مصادر آرامية كما تبين أن حروف اللغة السنسكريتية على سبيل المثال هي من أصل آرامي «السنسكريتية هي لغة قديمة في الهند» وانتشرت اللغة الآرامية ووصلت إلى حيث وصلت تجارة الآراميين لذلك نجد أن آثارها وصلت إلى أواسط الصين، من هذه الزاوية نلاحظ بأن مساحة انتشار اللغة الآرامية كان أكبر بكثير من المساحة التي سيطرت عليها الممالك الآرامية، ونستطيع القول إن الوحدة القومية التي عجزت عن تحقيقها امبراطوريات آشور وبابل وصور وقرطاجة قد حققتها الثقافة واللغة الآرامية.
وبالنتيجة فإننا نستطيع القول إن اللغة الآرامية انتشرت نتيجةً للنشاط التجاري البري الواسع الذي مارسه الآراميون في مناطق كثيرة من الشرق القديم، وفي القرن الأول بعد الميلاد انقسمت اللغة الآرامية إلى قسمين أو لهجتين رئيسيتين هي: الآرامية الشرقية والآرامية الغربية تضم الآرامية الشرقية اللهجة السريانية والبابلية… وغيرها، أما الآرامية الغربية فتضم لهجات النبطية والتدمرية… وغيرها. وقد استمر استخدام اللغة الآرامية في مساحات واسعة وبقيت اللغة الآرامية لغة الثقافة والتجارة والإدارة والفكر والأدب مدةً طويلةً تقارب نحو 2000 عام، وبعد عام 650م تقلص دورها بالتدريج واقتصرت على التعليم الديني وأخذت تتراجع أمام اللغة العربية التي حملت لواء الحضارة العربية.
وباعتبار أن الآراميين نشطوا بالتجارة وبرعوا بها خاصةً في المناطق الداخلية في سورية فقد سيطروا على طرق المواصلات التجارية في بلاد الشام وجابت قوافلهم التجارية بلدان الهلال الخصيب، ووصلت حتى منابع الرافدين شمالاً وإفريقيا جنوباً وتفوّقوا على الفينيقيين في التجارة البرية وأصبحوا سادتها بلا منازع، في حين تفوق الفينيقيون في التجارة البحرية ويعتقد بعض الباحثين أن الآراميين كانوا يستخدمون السفن لنقل بضائعهم في نهري دجلة والفرات.
مستشار وزير السياحة