قضايا وآراء

العالم يتجاوز الناتو

| أنس وهيب الكردي

في عامه السبعين، وصف قادة حلف شمال الأطلسي «الناتو» حلفهم العسكري بـ«الأقوى» على مر التاريخ، ولم يرد زعماء «الناتو» أن تمر الذكرى السبعون لتأسيسه مرور الكرام، فاختاروا قصر بكنغهام في العاصمة البريطانية لندن مكاناً لاحتفالهم المهيب.
لكن نظرة فاحصة على العلاقات داخل الحلف، تكشف أن الحلف ليس على ما يرام، وسط عالم تتحول موازينه بشكل لا رجعة عنه.
نبدأ من هذا العالم، الذي صمّم الحلف ليتعامل مع حقائق تخالفه بشدة؛ فعالم اليوم لم يعد محوره المحيط الأطلسي «الأطلنطي» بل المحيط الهادي «الباسيفيك»، كما تنبأ بذلك الجيوإستراتيجي الأميركي ألفرد ماهان، إذ انتقلت ديناميكية النمو، التصنيع، التجارة من الأطلسي إلى الهادي.
كان العالم الذي شهد ولادة «الناتو» هو عالم الحرب الباردة والصراع الأيديولوجي ما بين الشرق الشيوعي تحت قيادة الاتحاد السوفيتي والغرب الحر تحت قيادة الولايات المتحدةـ وفي ذاك العصر، كانت الجيوسياسة العالمية أقل تعقيداً مما هي عليها في عالمنا المعاصر؛ فالقوتان العظمتان آنذاك: الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، كانتا تتحكمان بقرارات الدول المتحالفة معها، على الأقل على الصعيد الإستراتيجي، أما ساحات الصراع فقد كانت محددة بدقة، والأهم أن الغرب تحت القيادة الأميركية كان لا يزال المهيمن على بنية النظام العالمي، وكانت الأمواج الدولية لا تزال محابية للولايات المتحدة وأوروبا.
أما عالم اليوم، فهو متعدد الأقطاب، يشهد تراجعاً استراتيجياً لقوة الغرب في موازين القوى العالمية. انتقلت الصين من طور الصعود التدريجي، إلى لحظة استعادة موقعها التاريخي، في تحول إستراتيجي للقوة يعيدنا إلى ما قبل القرن التاسع عشر عندما كانت بكين تسيطر على 40 بالمئة من الناتج العالمي، هذه الاستعادة الصينية للذات، ترافقت مع نهوض أمم تاريخية أخرى، جرى استبعادها عن مسارح السياسة العالمية لمئتي أو ثلاثمئة عام كالهند، إيران وتركيا.
لم تكن هذه التحولات لتأتي في وقت أسوأ بالنسبة للغرب، حيث تتباعد الخطا بين الأوروبيين والأميركيين، ويتعمق الانشقاق ما بين بريطانيا والبر الأوروبي القاري. هذان المعطيان، يرسخان حالة عدم اليقين في العواصم الغربية، التي تواجه أيضاً، موجة يمينية تصّر على إعادة النظر في جوهر القيم الليبرالية التي تأسس عليها الغرب.
وبينما تتراجع قوة الغرب النسبية، نتيجةً للصراعات التي تعتمل في دوله على روحه، تفقد عواصمه بوصلتها الإستراتيجية وتتناقض مقارباتها في مواجهة التحديات الخارجية، سواء احتلال الصين لمكانة القوة الكبرى الثانية في النظام الدولي، أم عودة موسكو إلى جوارها القريب في كل من آسيا الوسطى، البلقان، الشرق الأوسط، وشرق أوروبا، أو صعود القوى التاريخية مثل إيران وباكستان وتركيا، في إقليم الحافة «Rimland» المتوضع ما بين أوروبا، روسيا، وإفريقيا.
لم يكن عابراً أن تتناقض رؤى الرئيس الأميركي دونالد ترامب مع رؤى نظرائه الأوروبيين حول «الناتو»، فالخلاف الأميركي الأوروبي حول الأمن العالمي، عميق، ولن تحله موافقة الأوروبيين على زيادة مساهمتهم في ميزانية الحلف، أو التشاور بشأن الصين، بناء على طلب واشنطن، ضمن أروقة التحالف للمرة الأولى في تاريخه. شهدت اهتزاز الروابط ما بين ضفتي الأطلسي، أميركا وأوروبا الغربية، على وقع تصريحات ترامب المطالبة للأوروبيين بزيادة إنفاقهم على ميزانية «الناتو»، والتي تؤشر لقلق أميركي من تأسيس الأوروبيين لقوة مشتركة تجعلهم قادرين على الاستقلال عن الأميركيين، يتوازى ذلك مع الانقسام الحاصل ما بين غربيي أوروبا وشرقييها، انقسام لا ينحصر فقط في النموذج السياسي الحاكم، بل وأيضاً في تحليل المخاطر الأمنية والتعامل معها.
إنَّ البنية العسكرية لحلف شمال الأطلسي أُعدّت من أجل حماية الدول الأوروبية الغربية من هجوم سوفيتي يبدو اليوم بعيد الاحتمال؛ فساحة المواجهة مع الروس انتقلت خطوطها بعيداً إلى عمق أوروبا الشرقية في أوكرانيا، ولم تعد في قلب ألمانيا كما كانت عليه الحال في الحرب الباردة. وبالنسبة لدول أوروبا الشرقية فإن شقيقاتها في غرب القارة، لسن مضمونات دائماً عندما يتعلق الأمر بما يعتبرنه «خطراً روسياً»، فألمانيا الدولة القائدة في أوروبا لا ترى أن الروس يشكلون تهديداً مباشراً لأمنها، أما فرنسا، فرئيسها إيمانول ماكرون، هو من لم يكل منذ أشهر عن الدعوة إلى إعادة ربط روسيا بأوروبا، في تصريحات أثارت حنق المسؤولين في عواصم أوروبا الشرقية.
بكل الأحوال، لم يعبأ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين كثيراً، لزخارف الكلام الفرنسي عن «أوروبية روسيا»، وحرص عشية قمة لندن على توجيه رسالة من العيار الثقيل للغرب، باشتراكه ونظيره الصيني في افتتاح «قوة سيبيريا»، وهي خط أنابيب يمتد لثلاثة آلاف كيلومتر، سينقل الغاز الروسي إلى الصين.
ضعف الروابط الأطلسية واستفحال النزعة التعديلية التركية، وقفا وراء رفع الرئيس رجب طيب أردوغان صوته، مهدداً، في المحفل العسكري الأول للغرب، دون الخوف من عواقب تهديده. لقد فات الزمن، الذي يمكن فيه للغرب، ضبط أنقرة عبر التكشير عن أنيابه. لم ترد القوى الغربية على عضو في الحلف يشتري من روسيا منظومات مضادة للصواريخ، فكيف يمكنها ردع أنقرة عن استكشاف فرصها وملاحقة مصالحها مع روسيا وسواها في الشرق الأوسط، شرق المتوسط، إفريقية أو غيرها.
إذن، هو عالم تغيّر والحلفاء الأطلسيون منشغلون بخلافاتهم الجمة، والتي لم يتمكن من حجبها صخب الاحتفالات بالذكرى السبعين لولادة «الناتو»، وإن هم حرصوا على إبداء الوحدة والتماسك في البيان الختامي لقمتهم، إلا أن العالم الذي بُني حلفهم لمواجهته، أفل وأتى مكانه عالم جديد.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن