ثقافة وفن

«المنحوتة الصغيرة» ممتدة في سورية منذ آلاف السنين … مصطفى علي لـ«الوطن»: المعرض ظاهرة لإبداعات أكثر من جيل.. بمواد مميزة وتتمتع بالديمومة

| سوسن صيداوي

من الحضارة الإنسانية وامتداداً لجذرها الواغل في عصب التاريخ، أتت إلينا منحوتات عبّر مبدعوها عن أفكارهم ورؤياهم، وبقيت لنا إرثاً عريقاً يدّل على جمالية فكر متنوع وغني رغم بساطة الإمكانيات والقدرات في ذلك اليوم. ومن تلك الأزمان إلى أيامنا هذه بقيت المنحوتة الصغيرة تعبّر عما يجول في الدواخل لمبدعيها الذين يعملون اليوم بشكل جدّي عبر تنوع الخامات لتكون منحوتاتهم إرثاً لأجيال قادمة ولتلامس العصرنة، وتثبت بأن الحركة الفنية التشكيلية السورية معافاة رغم كل الحصارات وغلاء الأسعار ومحدودية الإمكانيات. ومنه سنتحدث اليوم عن معرض (المنحوتة الصغيرة) في غاليري مصطفى علي بدمشق، بمشاركة كل من الفنانين:إحسان العر، روبا كنج، علاء إبراهيم، لطفي الرمحين، هيثم مليشو، هلا الجاري، جميل قاشا، رهف علّوم، عمار خزام، محمود شاهين، مهيار علي، وائل دهان، حسين ديب، سمير رحمة، غازي عانا، محمد ميرا، وضاح سلامة، نرجس عبد اللطيف، حسام نصرة، عبد العزيز دحدوح، فؤاد دحدوح، مصطفى علي، نهى العلي، يامن يوسف.

امتداد الجذر التاريخي للمنحوتة

احتضن غاليري مصطفى علي نحو ثمان وأربعين منحوتة، تسعى لتقديم إبداعها وطرحه ضمن مساحات للآراء والمناقشات مع دعوة للاقتناء لمنحوتات صغيرة، هي كانت موجودة في سورية منذ القدم، واليوم المعرض دليل على همّة المبدعين من الشباب والمخضرمين في المقدرة على تقديم الأجمل من المنحوتات الصغيرة، وحول معرض (المنحوتة الصغيرة)حدثنا نحاتنا السوري الطارق أبواب العالمية مصطفى علي قائلاً: «تجربة النحت أصبحت ظاهرة في سورية المعاصرة، بداياتها كانت صعبة جداً بالستينات والخمسينات، ولكن اليوم هذه الظاهرة تكرست عبر تقديم التجارب المتنوعة والتي تعود إلى عدة أجيال، مما ميّزها بالأفكار والأساليب والتقنيات والمواد الخادمة والتي يعمل عليها النحات واليوم في معرضنا (المنحوتة الصغيرة) نحن أمام ظاهرة لإبداعات أكثر من جيل، نحاتون مخضرمون، ونحاتون شباب، ونحاتون أكثر شباباً، وفي الحقيقة كل المنحوتات متميزة والكل على دراية بما يقدم وما الرؤية المتجسدة في منحوتته المقدمة، بالإضافة إلى المواد المميزة والتي هي بذات الوقت تتمتع بقدرتها على الديمومة في السنوات». مضيفاً: «إن المعرض ضم نحو ثمان وأربعين منحوتة تعود إلى عشرين نحاتاً، والذين قدموا أعمالاً بين الواحدة إلى ثلاث قطع وحاولنا أن تكون الأحجام صغيرة ومتفاوتة بحجم الصغر، فهذا المعرض يؤكد على استمرارية المنحوتة الصغيرة في سورية والتي عمرها أكثر من ثلاثة آلاف سنة والتي نراها في المتاحف وكانت تستخدم في تزيين البيوت أو لأغراض جمالية، ونحن من معرضنا نعطي شعوراً بالامتداد التاريخي لهذه المنحوتات الصغيرة وبالجذر التاريخي لها».

اجتهاد على المادة والتشكيل

أن يصوغ النحات أفكاره ويطوّع الحجر أو المعدن فإن هذا الأمر في غاية الصعوبة، والأصعب أن تصل أفكاره ورؤياه إلينا، ومن هنا يكون قد تجاوز الحدود محققاً الغاية، النحات غازي عانا يحدثنا عن مشاركته من خلال منحوتتين، واحدة لجسد المرأة العاري والأخرى لطيرين من الحمام، وبالطبع هو يجيد النحت التجريدي ويقول: «أنا أنحت نحتاً تجريدياً ولكنني متجه في تجربتي هذه نحو الواقعية والتبسيط، كي أكون قريباً أكثر للجمهور، فالتجريد لا يجيد قراءته الجميع، فهكذا أكون مفهوماً وقريباً بأفكاري عبر منحوتاتي، وفي إحدى المنحوتتين اشتغلت بمعدن الألمنيوم عتّقته، والتجربة الثانية بالبرونز وأتمنى أن أكون حققت الغاية وأصبت رضى الجمهور».

وعن أهمية هكذا معارض في نشر الوعي الفني وتطويره محلياً والتأكيد على مقدرة مبدعينا من النحاتين الذين تقدموا نحو العالمية بأعمالهم أشار: «هذا المعرض يجيب عن السؤال المطروح من قبلكم، ففي معرض (المنحوتة الصغيرة) يشارك نحو جيلين من الشباب، مع جيل يفوقهم عمراً وخبرة من النحاتين المخضرمين، وأنا أرى أن الشباب يعملون على تجارب تقنية مبدعة من خلال عملهم على الخامات وتجريبها، وربما يعود السبب كون النحات أصبح يبحث عن المواد الأقل تكلفة، فمثلاً البرونز غالي الثمن وكذلك الحجر والأخير يحتاج إلى مساحة كبيرة وهذه الأمر يتطلب من النحات أن يمتلك محترفاً، لهذه الأسباب أخذ النحاتون يبحثون عن مواد متنوعة وبالتالي جاءت أعمالهم فيها اجتهاد كبير على المادة والتشكيل، وأختم بأن هذه النوعية من المعارض تخلق حالة جميلة من التناغم والحوار الفكري باللاوعي بين ما نقدمه جميعاً».

ما بين المستطاع والمتفرّد

تقدمت بالبساطة وقدمت نفسها عبر منحوتات متفردة بالعنصر والمادة الخام التي اشتغلت النحاتة رهف علّوم عليها لتنال إعجاب أساتذتها وتقدير الجمهور، حيث تعمل على المادة الخام وتطوّعها في متعة طفل يعبث ويكتشف ما هو جديد مع طموح أن تقدم أعمالاً تنال فيها الإعجاب بالاختلاف والتميّز، وعن تجربتها في المعرض تحدثنا النحاتة علّوم: «بدأت في منحوتاتي بالعمل على عنصر (الديك) وأحب أن أطور قليلاً، لهذا أدخلت عليه عنصر (الإنسان) في نوع من (الميكس ميديا)، فأحببت أن أبتعد عن التقليدية وأتجه بخيالاتي نحو ما أرغب في التعبير عنه. الأقدام هي من المعجون وقمت بنحتها، والجسم قمت بتلبيسه بالقماش والغراء اللاصق، هذه المواد محبّبة إلى قلبي كونها بسيطة جداً وعفوية ويمكن تطويعها بالشكل الذي نريده». وعن سؤالنا عن أهمية التبسيط والاتجاه بالتنوع وتقديم ما هو مختلف كي نتماشى مع الغرب في إبداعه، أجابت: «بالتأكيد أنا أحب النحت بكل ألوانه وأنواعه، وأحب كل المواد الخام التي تدخل فيه سواء البرونز أم الحجر، ولكن نحن بحاجة لتنويع ذاكرتنا البصرية بما هو مختلف ومتميّز عما هو سائد ورائج، وهذا ما أطمح إليه من خلال ما أقدمه، وكما أحب أن أشير إلى المتعة الكبيرة التي ترافقني أثناء تنفيذ أعمالي وبالراحة التي تغمرني وعدم الخوف من المادة الخام وخصوصاً ما نواجهه من ثمنها المرتفع، فهذه الأسباب كلّها تدفعني إلى السعي والطموح في البحث عما هو بالمستطاع لنا والمتفرد للجمهور».

لم تخرج من بصمتها

ضيق الوقت الشديد دفع النحاتة روبا كنج هذه المرة كي تستعين بصديق ولتقدم لنا الأجمل بما يزيل الغشاوة عن عيوننا من قولبة ما هو محيط بنا من برمجيات وإلكترونيات ووسائل تواصل اجتماعي، كي تعبر بالأنوثة المعتادة عن وجود ما ينسلخ عنا بالفكر أو الشعور، لتتابع بالحديث النحاتة كنج: «الأنثى هي نفسها ولكنني حاولت أن أقدم أمراً مختلفاً بالشخصية من حيث الغشاوة التي توضع على العين من قبل التكنولوجيا والمحيط، ولكن دائماً هناك المحاولة بأن تخرج الأنثى منها، وعن الأسود والأبيض فأنا هنا أتحدث عن النقيض الموجود فينا وبكل ما حولنا، وعما ينسلخ من مشاعر وأحاسيس، وبالطبع تجربتي في تطور دائم وعلي أن أبحث عما هو جديد ضمن إطار بصمتي وشخصيتي وما يمليه عليّ طموحي وحبي للنحت». وتابعت بأنها ربما لن تتابع بهكذا نوعية من الأعمال ولكنها رغبت في معرفة رد فعل الجمهور عما تقدمه من جديد شارحة عن طبيعة المواد المستخدمة: «وعن المواد هناك( البوليستر) و(الريزين) والمادة تخرج بلونها هذا من القالب، وهذه المرة لم أجد صعوبة بالعمل على المادة بعكس المعرض السابق حيث استخدمت ورق الجرائد والغراء اللاصق، وكوني استعنت بصديق هوّن علي مواجهة ضيق الوقت الذي قيّدنا قليلاً، وفي النهاية أرجو أن أكون قد وفقت فيما قدمته، واليوم المعرض هو فكرة جميلة وفيها من الإغناء والحوار بين التجارب ما يدفعنا دائماً نحو تقديم الأفضل كوننا نستفيد من بعضنا بشكل دائم».

شريك الطبيعة

في حين أخبرنا النحات يامن يوسف بأنه يهوى الخـامـة التي بين يديه ويحاول أن يبقي جوانب منها على طبيعتها وعلى حالها، وعن مشاركته حدثنا: «الجميل في هذا المعرض بأنه جمعنا مع عدد كبير من النحاتين ومنهم أساتذتنا في الكلية، وأيضاً احتوى على تجارب قديمة ومنها الجديد، أنا شاركت بعملين من خامتين مختلفتين، والعملان هما استمرار لنفس الخط الذي أعمل عليه في الأسلوب التعبيري، فأحدهما من الخشب والآخر من الحجر، وأحب أن أضيف بأنني أحاول دائماً أن أستفيد من الخامة الموجودة، بحيث أترك منها أجزاءً على طبيعتها وأعمل على جوانب أخرى، وأعدّها بالشكل المناسب من دون أن أغير من طبيعتها الأساس، وهذا لأنني أحاول أن أكون شريكاً مع الطبيعة في بناء العمل الفني».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن