سمّوه عبثاً، لأنهم زعموا أن أشياء لا تتحقق، بل هناك أشياء من الإعجاز أن تتحقق، ورسموا معالم عبثهم، ومعالم فكرهم العميق، لأنهم يدركون ما لا يمكن إدراكه بحدسهم وعلمهم ومعرفتهم، وقبل كل شيء بوجدانهم واستشرافهم لما يمكن أن يكون.. استشرفوا عالماً حقيقياً لا يدركه الواقعيون، وعندما يدركونه يقول واحدهم: لم أكن لأتخيل أن يحدث هذا في الخيال، أو مع أحد من الناس!!
عندما نقرأ «حوادث دمشق اليومية» للبديري الحلاق يمكن أن ننسب كثيراً مما جاء فيه إلى المبالغة والكذب والتأليف، من أكل للجيف والبقايا والروث وغير ذلك، وقد سمعت من يهزأ بذلك ويرده إلى مخيلة الحلاق، لكن من عاش وبقي رأى أن الإنسان يأكل لحم أخيه الإنسان، ورأى الذي يبقى أياماً في العراء لتنهشه الكلاب، والطيور الجارحة، وقد كانت هذه أكثر رحمة به عندما وارته في بطونها.. وحين يعيش يعلم أن دائرة الطباشير ليست قوقازية، وإنما وجودية، فهذه وتلك شخصيات قد نعيش معها، وقد نكون نحن ولا ندري أننا كذلك! وكل ما نفعله هو امتداح المرأة المربية وشتم المرأة التي أنجبت!
وحين قرأنا بيكيت وبانتظار غودو أسبغنا على مسرحه الكثير من الأوصاف، والكتب النقدية تغصّ بهذه الأوصاف، لنكتشف أن كل واحد منا هو غودو، وأن عالم الانتظار والخيبات المتلاحقة هو عالمنا الحقيقي الذي نعيشه!
وحين صاغ الرحابنة محطتهم في ذلك الزمن الجميل، ذلك الزمن الذي كانت عواصف الفكر والتنوير تجوب عالمنا العربي، كان «الترين» هو غودو، وكانت الحبكة غاية في القيمة والجمال والغرابة، وأصعب من غودو وانتظاره، كانت المحطة لانتظار ما لا ينتظر، لانتظار ما لا يمكن أن يأتي، لانتظار حلم ما بالهروب.
بالهروب من حب جارف.
بالهروب من سلطة جائرة.
بالهروب من حمق يلف سكان المحطة.
بالهروب إلى عالم من الأحلام المتخيلة.
بالهروب من إثراء على حساب الناس البسطاء.
والتقى اللص بالحالمة، وكان الانتظار الطويل جداً لقطار قادم، في محطة متخيلة، الجميع يشتم الحالمة، حتى شريكها اللص، الذي استغل حلمها المعلوم عندها وحدها، والسلطة تعاقب على الحلم، وتعاقب على جريمة غير مرتقبة، وغير منطقية، وتتجاوز في المحاسبة على الأحلام ما يمكن أن يصل إليه العقل! ففي الوقت الذي ترفض فيه فكرة المحطة، وتعاقب النصابين على اختراع القطار، تفترض أن هؤلاء مجرمون لأنهم فجروا قطاراً غير موجود، هو في البرازيل وقبل سنتين، لكن برأيهم لو وصل لكان قد تم تفجيره، بل هم من فجرّه حتى لا يصل!!
وتنفجر العبثية في أعلى تجلياتها في خاتمة المحطة.
لعقوبة من السلطة تنهال على الحالمين.
يأتي صوت القطار.
وحدها الحالمة فيروز كانت تنتظره.
وحدها كانت على يقين من مجيئه.
وحين جاء صوت صفيره من البعيد.
ووسط دهشة الجميع.. تكتشف الحالمة أنها بلا حلم.
فهي من أخرجت من جعبة أحلامها المحطة والقطار.
وهي من صنع الحلم للبسطاء تقف وحيدة.
ليس معها بطاقة تذكرة.
تستجدي الجميع أن يمنحوها تذكرة.
تريد أن تصعد إلى القطار الحلم.
اللص السارق استحوذ على كل شيء، ويخبر فيروزتنا أن البطاقات والتذاكر انتهت، وما من مكان لها بعد أن وصل القطار.
الجميع حجزوا لأنفسهم تذاكر في حلم الحالمين إلا من حلم.
وتستمر رحلة الانتظار.. أهو عبث؟