هكذا، أنجزت الجزائر دولة وشعباً الاستحقاقَ التشريعيَّ الأهّم المتمثِّل بانتخابِ رئيسٍ جديدٍ للبلاد في هذهِ المرحلة الحساسة من تاريخها، استحقاقٌ تشريعي أفضَى إلى انتخابِ المرشّح عبد المجيد تبون من بينِ خمسة مرشَّحين دون الحاجة إلى جولةٍ ثانية، نظراً لحصولهِ على نسبةٍ تزيد على الخمسين بالمئة من الأصواتِ كما ينصُ الدستور الجزائري.
شُكراً للشعب الجزائري، لأنهُ ببساطةٍ كان حسبَ يقيننا بهِ واعياً لما يعنيهِ إفشالَ هذا الاستحقاق الدستوري الأهم. شكراً للجيش الجزائري الذي تحملَ مسؤولياته وأتمَّ المهامَ المنوطةَ بهِ دستورياً على أكملِ وجهٍ، إن كان في الحفاظِ على الأمن والاستقرار بحدِّهِ الأعظم، ومن ثمَّ تسليمَ السلطات التي تُنتجها الاستحقاقات الدستورية مفاصلَ قيادةِ الدولة مدنياً، ليتركَ إنجاز هذا الاستحقاق الباب مشرعاً على السؤالِ الأهم: ماذا بعد؟
في الإطارِ العام، فإن تجاوزَ استحقاقاتٍ كهذه لابدّ أن لهُ متضررين، هؤلاء سيحاولونَ البحثَ في التفاصيلِ للضربِ على هذا الإنجاز، هم أساساً لم يوفِّروا العمليةَ الانتخابية للتصويبِ عليها والدفع بالجزائريين لمقاطعتها، أرادوا الفراغ لأنه الحل الوحيد لاستجلابِ التدخلاتِ الخارجية التي قد تحملهم إلى السلطة، ثم انتقلوا بعدَ فشلهم للتشكيكِ أساساً بهويةِ المرشحين وإنهم جميعاً يشكلونَ استمراريةً للسلطة التي تحكم منذ عقود، وكأنهم تناسوا أن من ترشَّحوا هم مواطنون جزائريون لا يمكن منعهم من الترشح دستورياً ولا قانونياً، بل إن بعضهم كان مرشحاً لأكثرَ من مرةٍ في وجهِ الرئيسِ السابق عبد العزيز بوتفليقة، وبعضهم الآخر ذو توجهاتٍ إسلامية لا يبدو أنها اليوم مستساغة في الشارعِ الجزائري الذي عانى الويلات من الإسلام السياسي. هؤلاء بالمطلق لا يريدون الاعتراف بأن هناك انتخاباتٍ جرَت ولأولِ مرة بإدارة سلطةٍ وطنيةٍ مستقلة للانتخابات، وكما جرت العادة فإن الاتهاماتَ جاهزة للتصويبِ على الجيشِ الجزائري وادعاءَ أنه نفذ إرادتهُ في الانتخابات. هذه الحملة التي بدأها المتضررون كان أفضل ردٍّ عليها هو كلام الرئيس المنتخب عبد المجيد تبون بُعيدَ إعلان فوزه، فالكثير من التساؤلات يُمكننا قراءةَ أجوبتها بين سطورِ كلامهِ الذي كان لهُ مفعولَ سحب الذرائعِ من جميعِ المتضررين ووضعَ الكرة في ملعبهم، والذي نختصرهُ بشقينِ أساسيين:
أولاً: الشق الموجَّه للجزائريين
حاولَ الرئيسُ المنتخب مدَّ اليد للجميع بمن فيهم أولئك الذين قاطعوا الانتخابات بذرائعَ شتى، فالرجل قال إنه جاهزٌ للذهابِ بعيداً في الحوارِ معهم حتى لو اضطرَ لزيارةِ مناطق تُعتَبر العصبَ الأساس لرفضِ الانتخابات ونتائجها كولايةِ بجاية مثلاً، كما أنه لم يُغلق الباب أبداً أمام الإصلاحات الدستورية التي بقيَ يُطالب بها من تبقّى في الشارعِ من بقايا الاحتجاجات التي بدأت مطلع شباط من العام الحالي ضد ترشُّح الرئيس عبد العزيز بوتفليقة بالإضافة لبعض المنظمات المدنية غير الحكومية.
هنا يمكننا فهمُ إصرار الجيش الجزائري على إجراء الاستحقاق الدستوري، هذا الإصرار كانَ درساً لابد أن يعيهِ أولئك الذين يكررون في الجزائرِ وغيرها بطريقةٍ ببغائية «الشعب يريد إسقاط النظام»، ويتجاهلونَ أن فكرةَ إسقاط النظام تعني تعليقَ الدولة لمسؤولياتها، هؤلاء كانوا يصرونَ على فترةٍ انتقالية يتم فيها الاتفاق على دستورٍ جديد للبلاد، لكن ماذا لو لم يتم الاتفاق؟ هل يعني بقاءَ البلاد مشلولة لسنواتٍ؟ إن درس الانتخابات الجزائرية يثبت مرة جديدة أن ما من إصلاحاتٍ تأتي من فراغ في السلطة، لأن الفراغ يعني بشكلٍ عام تكرارَ تجاربَ سيئة، والنموذجان الليبي والعراقي لا يزالانِ ماثلينِ أمامنا، إذ لم يستطع كل من العراقيين والليبيين حتى الآن استعادةَ روح الدولة بعد سقوط النظامين بهما، وهناكَ من أرادَ للجزائر السيناريو ذاته، لكن بعيداً عن الغزو الأطلسي، وبمعنى آخر: إن اللهجة التي تحدث بها الرئيسُ المنتخب توحي لنا وكأنهُ يقدمُ برنامجه رئيساً لولايةٍ دستورية نظرياً لكنها قد تكون عملياً كفترةٍ انتقالية تنتقل فيها الجزائر من شكلِ حكمٍ إلى آخر دون العودةَ إلى الوراء، ليسَ فقط بما يمكن أن يجري من إصلاحاتٍ دستورية بما فيها إمكانية الاتفاق على دستورٍ جديد، لكن فيما يتعلق بملاحقةِ أو محاكمةِ الفاسدين، وهو ما قالهُ صراحة بأنه لا عفو مع الفاسدين أبداً.
ثانياً: الشق المتعلق بالخارج
يبدو من اللافتِ أن الرئيسَ المنتخب هو أول رئيس جزائري يأتيِ من خارج ما يُسمى منظومةَ جيش التحرير الوطني الجزائري، هذا الجيش الذي اقتلعَ الاستقلال الجزائري من فرنسا بعدَ سنواتٍ من النضال الديبلوماسي والعسكري، لكن حتى هذه الميزة لم تشفع لهُ بجعل فرنسا الرسمية تتعاطى مع النجاح الذي حققه بطريقةٍ لبقة، ففرنسا التي كانت ولا تزال تحنُّ لماضيها الاستعماري ذكَّرت تبون عبر رئيسها ايمانويل ماكرون بضرورةِ الإنصاتِ إلى الشعب، هل حقاً أن ماكرون كان جاداً في كلامه؟! وماذا عن صوتِ الشعب الفرنسي الذي يصدح منذ عامٍ كامل عبرَ تظاهراتِ السترات الصفراء أو الاضطرابات التي تعم فرنسا منذ أسبوعين احتجاجاً على إصلاحاتِ التقاعد؟!
كلام الرئيس الفرنسي يعطينا فكرة عن النظرة الفوقية التي يعتمدها الاستعمار القديم للإنجازات التي تحقّقها شعوب هذه المنطقة طالما أنها ليست ممهورة بخاتم الديمقراطية التي يظنونَ أنفسهم يختصرونها. كان منطقياً أن يردَ الرئيس المنتخب بشيءٍ من عدمِ الاكتراث لتصريحات ماكرون، لكن إصرارهُ على التسلحِ بالتفويض الذي أعطاهُ إياه الشعب ربما تذكير غير مباشر لأحفاد الاستعمار القديم بأن جيش التحرير الوطني الجزائري عندما فاوضَ على الاستقلال وحصلَ عليه، كان كذلك الأمر يفاوضُ بتفويضٍ من ذاتِ الشعب.
ربما لا يخفى على أحد أن الجزائرَ كانت ولا تزال هدفاً للكثيرِ من الطامعين بمعزلٍ عما يمثلهُ الطمع الفرنسي من إرثٍ تاريخي، كما أن الجزائر هي آخر جمهورية تبقّت في هذا الشرقِ البائس لم يُصبها الخراب والدمار بمسمى «الربيع العربي»، تُرى هل هي مصادفة أن الجمهوريات فقط هي التي تم استهدافها؟ بالتأكيد هي ليست مصادفة لأن هذه الجمهوريات كانت حجرَ العثرة الأكبر في وجهِ التمدُّد الأميركي بالقدرة على استشراعِ نظام الحكم الذي يُناسب تكوينها الاجتماعي، وبالتالي الحفاظ على ما تكتنزهُ هذه البلدان من ثروات.
اليوم مع ارتفاعِ الحديث عن الصراعِات القادمة التي سيكون محورها صراع النفط والغاز في المتوسط، تبدو الجزائر أكثر من أي وقتٍ مضى في عينِ العاصفة، تحديداً أنها تبدو في وسطٍ ملتهبٍ، إذ يكفيها أن تكونَ محاطة بليبيا من الشرق ومالي من الجنوب حتى يكون هذا الاستهداف قائماً.
في الوقت ذاته، لا يمكن نكرانَ أن المد الإخواني كان ولا يزال يرى في الجزائر ذاك الفردوس المفقود، وبمعنى آخر هناك من لا يزال يرى أن هناك إمكانية لاستعادة سيناريو التسعينيات من القرن الماضي لكن بطريقةٍ ديبلوماسية استندت أساساً لفرضية خلق الفوضى والفراغ، لكن هذه الأحلام حتى الآن تبخرت، كيف لا والرئيس المنتخب قالها صراحة:
ليس هناك في الكرة الأرضية كلها من له وصاية على الجزائر. عبارة تبدو في الإطار العام رسالة لمن يهمه الأمر في الشكل الذي ستتعاطى معه الجزائر الرسمية في السنوات القادمة، فماذا ينتظرنا؟
يمتلكُ الشعب الجزائري الكثير من المقوماتِ التي جعلتنا نثقُ بقدرتهِ على تجاوز الأزمات، وفي الوقت ذاته الثقة بخياراته، والحديث هنا عن الرئيس المنتخب لا يعني أبداً ضربَاً بالمرشحين الآخرين، لأننا بالأساس نتحدث هنا عن أهمية إنجاز الاستحقاق الدستوري بمعزل عن هوية الناجح طالما أنه يمثل الخيارات الكبرى للشعب الجزائري، على هذا الأساس تبدو الجزائر كأنها تسيرُ بهدوءٍ لتكون أنموذجاً لقيادةِ التحولاتِ السياسية في البلدانِ التي تضربها الأزمات، ربما ما ساعدها في ذلك أن الوطنيين الجزائريين وأغلبية المعارضين كانوا يضعونَ مصلحةَ الجزائر العليا فوقَ كل اعتبار، فلم يرهنوا أنفسهم لدولٍ وسلطناتٍ إجرامية عفا عنها الزمن.
لكن لا يبدو أن وحشَ التطرف سيهدأ أو يستكين، كيف لا والدولة هنا هي خزان نفطٍ أو غاز؟ هذا الوحش قد يجد منفذاً حتى في الأُطر الديمقراطية ليجيرها لحسابه على طريقةِ المجرم الإخواني رئيس النظام التركي رجب طيب أردوغان، حذارِ.. حمى اللـه الجزائرَ والجزائريين.