رغم أن العقوبات الأميركية على سورية ليست بالأمر الجديد، لكنها مع «قانون قيصر» تتخذ منحى مختلفاً تماماً، فالعقوبات التي تمارسها الولايات المتحدة هي آلية سياسية قديمة لعالم يتسم بالصدام بين «معسكرين»، وهذه الممارسة كانت عنوان مرحلة خاصة خلال الحرب الباردة لمحاصرة أوروبا الشرقية، وإجراءاتها الاقتصادية وهي في عمقها حصار سياسي بالدرجة الأولى بهدف عزل المعسكرات السياسية منذ منتصف القرن العشرين.
عملياً فإن نهاية الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفييتي جعلا من هذه العقوبات «سجناً جماعياً» إن صح التعبير، وعلى الأخص عندما تم تطبيقها على كل من ليبيا والعراق، فالعالم الذي اتسم بتوحيد الأسواق وبعولمة غير مسبوقة، والأهم بنظام اتصالات معقد يتيح متابعة أقوى للعقوبات، جعل من الإجراءات الأميركية بنية تشريعية من الصعب اختراقها حتى بالنسبة للأوروبيين، والمثال الإيراني المعاصر يظهر عدم قدرة الاتحاد الأوروبي على إيجاد اختراق في هذه العقوبات رغم عدم موافقته على الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران.
في الوضع السوري فإن «قانون قيصر» يجعل من إيران وروسيا هدفين أساسيين، فهو يسعى لعرقلة مهام الدولتين اقتصادياً على الأقل، وربما يحد من إمكانية تدخل بعض الدول الأخرى في آسيا من التعامل حتى مع القطاع الخاص في سورية، فالوضع الذي يطرحه هذا القانون لا يلامس القوى الاقتصادية الكبرى، إنما يطول السوق الإقليمية لشرقي المتوسط وصولاً إلى الدول التي تمثل مخارج للسوق السورية عموماً.
بالتأكيد فإن الإجراءات الاقتصادية يمكن تجاوزها في كثير من الأحيان، ومهما كانت أنواع الحصار مشددة فتشابك العلاقات الدولية يتيح في كثير من الأحيان التعامل مع قنوات مختلفة، لكن الأخطر هنا هو أمران أساسيان:
– الأول هو محاولة سلب الدولة السورية إمكانية المبادرة الاقتصادية، وهو الهدف الأساسي من العقوبات عموماً، وفي المقابل فإن الحالة الإعلامية المرافقة لـ«قانون قيصر» تريد رسم صورة ذهنية نهائية ومطلقة للواقع الاقتصادي السوري خارج إطار الدولة.
تخلق العقوبات بيئة اقتصادية مختلفة عن الحالة الطبيعة لحركة الاقتصاد، وغالباً ما تنشأ هذه البيئة خارج عمليات التخطيط الاقتصادي الذي تقوم به الدولة، فهي ضرورية للالتفاف على العقوبات ولكنها مربكة عموماً ولا تتيح استقراراً داخل السوق، وهذا ما نشهده في سورية منذ بداية الحرب، كما أنها تتيح ممكنات للفساد نظرا لكونها تتحرك خارج الشكل الطبيعي لحركة الاقتصاد العام، ومواجهة كل هذه التبعات تتطلب بنية سياسية إبداعية للتقليل قدر الإمكان من النتائج المتوقعة للتعامل مع العقوبات.
– الثاني إيجاد «مشكلة سورية» تطول حلفاءها أو حتى علاقات قطاعها الخاص مع الأسواق المتاحة أمامه، فـ«قانون قيصر» يطول القطاع الخاص السوري بشكل مباشر، ويسعى لتشكيل عائق تشريعي داخل السوق الإقليمي المتاح أمام الشريحة الأصغر من القطاع الخاص.
هذا الواقع المعقد لا يمكن تجاوزه بشكل عادي، فالمسألة تحتاج لرؤية مختلفة للقطاع الخاص الذي يواجه اليوم استحقاقاً «مسؤولية اجتماعية» مختلفة عن السابق، لأنه سيحتاج في ظل الظروف الحالية إلى التفكير مجدداً بأهمية السوق الداخلية سواء من حيث الإنتاج والاستهلاك، وفي الوقت نفسه سيضطر للتعامل مع «البنية السياسية» ومساعدتها في إنتاج حلول لا تتجاوز العقوبات عبر الالتفاف عليها فقط، بل أيضاً في بناء علاقات مختلفة مع المحيط الإقليمي لسورية.
يمكن لـ«قانون قيصر» أن يصبح استحقاقاً سورياً بدل كونه «حصاراً»، لأنه في النهاية سيضع «المُنتج» السوري ضمن مواجهة جديدة، وسيجعل من إعادة النظر في علاقات الإنتاج أمرا يحتاج لبحث الجديد، والأهم هو إنشاء السوق السورية الخاصة لـ«علوم المعلومات» وغيرها من المنتجات التي باتت تحكم العالم.