تركيا أردوغان تتأرجح بين تقلبات وانشقاقات داخلية وأزمات السياسة الخارجية
| د. قحطان السيوفي
المشهد العام لتركيا أردوغان يُظهر انشقاقات في قيادات حزب العدالة والتنمية الحاكم، وتطورات سياسية داخلية ضاغطة تتعلق بمطالب قطاعات واسعة من الشعب التركي، كما تعاني السياسة الخارجية مواجهات حادة على جبهات متعددة تدفع بعلاقات تركيا مع قوى إقليمية ودولية إلى التدهور السريع.
الواقع أن تركيا باتت رهينة لحكم الفرد الواحد والحزب الواحد لما يقرب من عقدين، والتطورات الداخلية أو الخارجية مرتبطة بسياسات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان المتخبطة وخطابه الذي يتجاوز القواعد الدبلوماسية الدولية المعروفة ليؤدي إلى عزلة تركيا في محيطيها الإقليمي والدولي إضافة لاستمرار الهزّات التي تعصف باقتصادها.
في المشهد الداخلي التركي، نائب رئيس الوزراء – وزير الخارجية ثم وزير الاقتصاد الأسبق علي بابا جان، يستعد لإطلاق حزبه الجديد بعد استقالته من حزب العدالة والتنمية الذي كان أحد مؤسسيه، كما أعلن السبت رئيس الوزراء الأسبق أحمد داود أوغلو حزبه المعارض تحت اسم «المستقبل».
الحزبان الجديدان يشكلان أوسع حركة انشقاق في حزب أردوغان الذي بدأ رحلة تراجعه التي بلغت ذروتها بنتائج الانتخابات المحلية الأخيرة. حيث تكبد حزب «العدالة والتنمية» خسائر موجعة في كبريات الولايات التركية وفي مقدمتها إسطنبول.
في حديث علي بابا جان، مع قناة «خبر تورك» الإخبارية لخّص الوضع الحالي لتركيا مع انفراد أردوغان بالحكم، وأنه استقال من حزب العدالة والتنمية عندما وجد انحرافاً من الحزب في القيم، والمبادئ فضلاً عن التعسف في اتخاذ القرارات والأزمات تعاظمت، والبلاد دخلت نفقاً مظلماً بسبب حكم الرجل الواحد الذي أضر بالبلاد، وأنَّ تركيا تعاني مشكلة فيما يتعلّق بحرية التعبير وقضايا العدالة والاقتصاد.
بالمقابل أعلن رئيس الوزراء الأسبق أحمد داود أوغلو مشروع حزبه الجديد «المستقبل».
داود أوغلو وجه انتقادات حادة للرئيس أردوغان ولحزب العدالة والتنمية، متهماً إياهم بتقويض الحريات الأساسية وحرية الرأي والديمقراطية.
يلقى تحرك بابا جان وداود أوغلو ترحيباً واسعاً في الأوساط السياسية والشعبية بسبب تدهور وضع الحريات والحقوق الأساسية والضغوط الاقتصادية الكبيرة التي يعانيها السواد الأعظم من الشعب التركي.
تركيا كانت الدولة المسلمة الأولى التي اعتمدت العلمانية في الدستور والقوانين وفقاً لـثورة مصطفى كمال أتاتورك، وإعلان الجمهورية عام 1923.
ودستورها أكد علمانية الدولة في المادة الثانية من الدستور «الجمهورية التركية دولة ديمقراطية علمانية اجتماعية وحقوقية» لكنّ أكبر محاولات تغيير الطبيعة العلمانية للدولة جاءت في عهد أردوغان رغم أنه في 9 تموز 2018، أقسم، بصفته رئيساً للجمهورية: «أقسم أمام الشعب التركي أن أحافظ على وحدة الوطن والشعب، ومبادئ وإصلاحات أتاتورك، ومبدأ الدولة العلمانية…».
على حين يكرّر أردوغان دائماً عبارة أنه يجب تنشئة جيل محارب متديّن، رداً على تنشئة أتاتورك لجيل محارب علماني.
على صعيد السياسة الخارجية ملفات عديدة تشهد تعقيدات متزايدة في مقدمتها الخلافات المعلقة بين أنقرة وواشنطن، وفي مقدمة هذه الملفات منظومة الصواريخ الروسية «إس 400». وهذه الأخيرة مصدر قلق دائم لواشنطن بحجة أن المنظومة لا تتناسب مع أنظمة الناتو الدفاعية.
وفي هذا الاتجاه، دعا السيناتور الأميركي الديمقراطي كريس فان هولين، إلى فرض عقوبات على تركيا فوراً بعد أن أجرت تجارب على منظومة «إس 400»، ومواصلتها ارتكاب جرائم في شمال سورية.
وعلى حين يستمر التوتر مفتوحاً مع الولايات المتحدة بسبب صفقة «إس 400»، فإن الصفقة نفسها تشكل إحدى ركائز التقارب التركي الروسي، الذي يمتد أيضاً إلى التنسيق في سورية بلقاءات أستانا، فضلاً عن العلاقات الثنائية التي تحكمها بعض المصالح الاقتصادية أبرزها مجال الطاقة.
مراقبون يرون أن روسيا تتحرك في سورية انطلاقاً من رؤيتها التي فرضتها على تركيا، حيث تمكنت الدولة السورية من تحرير جنوب إدلب ومناطق شرق الفرات، وأقدمت تركيا على احتلال أراض سورية بحجة إقامة منطقة آمنة، ويبدو أن روسيا تعمل لتقييد هذه الرغبة وحصر التحركات التركية في نطاق ضيق لا تتعدى الاحتياجات الأمنية التي يغطيها «اتفاق أضنة» الموقع بين تركيا وسورية في 1998.
من ناحية أخرى فإن أزمات السياسة الخارجية لتركيا مستمرة، فقد وقعت تركيا مع «حكومة الوفاق» الليبية، مذكرتي تفاهم تتعلقان بالتعاون العسكري وتحديد مناطق الولاية البحرية. ما أثار اعتراضات واسعة على المستويين الإقليمي والدولي، وأثار أزمة كبرى مع دول منطقة شرق البحر المتوسط ممثلة في مصر واليونان وقبرص وغضباً إقليمياً، وأقر وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي، مؤخراً، بالإجماع، الإطار القانوني الذي يسمح بفرض عقوبات على تركيا، نتيجة تنقيبها غير الشرعي عن الغاز في السواحل القبرصية واليونانية.
تركيا لها علاقة راسخة بجماعات الإرهاب في سورية من جبهة النصرة التابعة لتنظيم «القاعدة» إلى تنظيم «داعش»، وهي علاقاتٌ موثقة ومعروفة، وفيها مصالح اقتصادية كبرى وفساد، كما أن تركيا شريكٌ إستراتيجي لتنظيم الإخوان، وهي الداعم لحكومة السراج التابعة لجماعة الإخوان المسلمين في ليبيا، أردوغان هدفه تعزيز مكانته في البحر الأبيض المتوسط؛ ويسعى لخلق الأعداء في المنطقة وفي أوروبا والعالم، وكأنه يُبدي استعداده للانتحار السياسي في مقابل سرقة ثروات الشعب الليبي.
تركيا أردوغان العائدة للتطرف الديني بعد علمانيتها الأتاتوركية أصبحت رهينة لحلم استعادة نفوذ الخلافة العثمانية كعنوان وكسياسة، وهي تفكر في بسط النفوذ والهيمنة على العالم العربي بدءاً من سورية؛ من خلال احتلال أراضي شمال سورية وبالتنسيق مع عملائها من الجماعات المرتزقة الإرهابية وتمارس القتل والتهجير للسكان لإجراء تغيير ديمغرافي.
لدى تركيا مشروع استعادة الإمبراطورية العثمانية، وهو مشروع فاشل عاجز عن استيعاب المتغيرات ويريد استعادة التاريخ الأسود لبناء المستقبل.
يخطئ أردوغان حين يظن أن العالم العربي سينسى طموحاته العثمانية التوسعية وتحالفاته المعادية، ويُخطئ أكثر حين يظن أن التحالف مع دولة قطر سيحمي اقتصاد تركيا وتنميتها ومستقبلها.
تركيا قامت بإنشاء قواعد عسكرية تحيط بالدول العربية؛ قاعدة عسكرية محتلة في «الصومال» وقاعدة عسكرية في قطر، وقاعدة عسكرية في جزيرة سواكن السودانية تم طردها منها.
ما لم تتخلص تركيا من هذا المسار الفاشل الذي تتخذه، فهي مهددة بمصيرٍ صعب.
تركيا أردوغان العضو في الناتو تقيم أوسع العلاقات مع تنظيم «داعش» سورية والعراق ومع تنظيم القاعدة ممثلاً بجبهة النصرة الإرهابية في إدلب، كما اعترف بذلك الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي قال: «عندما أنظر إلى تركيا أرى أنها تعمل مع مقاتلين على صلة بـ«داعش».
أخيراً فإن أردوغان السلطان العثماني الجديد يتأرجح بين مشاكل داخلية وانشقاقات في قيادات حزب العدالة والتنمية الحاكم وتخبط في السياسة الخارجية بأزمات ومواجهات حادة على جبهات متعددة أدت لتدهور سريع في العلاقات مع قوى إقليمية ودولية، كل ذلك يشير إلى بداية النهاية.