ثقافة وفن

أسهمت في ثورة اجتماعية جعلتها الأكثر مبيعاً … بعد خمسة عشر عاماً على رحيل فرانسوا ساغان «زوايا القلب الأربع»

| إعداد: مها محفوض محمد

خمسة عشر عاماً على رحيلها تعود ساغان برواية غير منشورة «زوايا القلب الأربع» التي لم يكن لها أن ترى النور لولا ابنها الوحيد دوني ويستوف الذي قرر العمل عليها من دون أن يقرب من الأسلوب حيث لم تكن مكتملة وفيها بعض الثغرات وفقرات غير مقروءة، إلا أن نشوة الكتابة عند ساغان تظهر في سيرة ذاتية شاملة لها وهي التي كانت موهوبة دوماً بالعناوين، تبحث عنها أحياناً عند الشعراء وخاصة عند بودلير وإيلوار.

يقول ابنها ويستوف: «وجدت على مر الصفحات الحرية المطلقة، روح اللامبالاة، دعابة ناشزة، جرأة تلامس الوقاحة».
تعد ساغان أشهر أديبة فرنسية بعد سيمون دوبوفوار في النصف الثاني من القرن العشرين دخلت عالم الأدب محطمة الأبواب بروايتها «صباح الخير أيها الحزن» التي قلبت الموازين الأخلاقية في ذلك الزمن وكانت صبية شابة بالكاد تبلغ تسعة عشر عاماً، فما من أحد قدم تحفة أدبية في مثل هذا السن سوى رامبو في مجال الشعر، روايتها هزت فرنسا يومذاك لأنها بثت نفحة جديدة في الرواقات البرجوازية العفنة لفرنسا التي لم تكن قد استعادت عافيتها بعد من هزيمة الأربعينيات، فأشاعت حرية النساء وكان شيئاً جديداً فما عدا مارغريت دوراس التي تحدثت في روايتها «سد أمام الباسفيك» عن شهوة الأنثى كانت الكتابات النسائية قليلة، ومع أن ساغان لم تكن جزءاً من حركة التحرر النسوية مثل سيمون دوبوفوار إلا أنها أدركت واقع الوضع النسوي والصعوبات التي تواجهها النساء في تحقيق رغباتهن في مجتمع يحكمه الرجال حيث قدمت في رواياتها مشاهد لنساء شابات مثلها مستقلات متحررات ففي كتابها «لا أنكر شيئاً» تطالب بمساواة الرواتب بين الجنسين ومنح النفقة الشرعية ومن دون أن تدري ساهمت ساغان في ثورة اجتماعية لم تطبق إلا مع الأجيال اللاحقة، فهي من الجيل الذي سبق الثورة الطلابية عام 1968 ما يفسر كيف كان صدور «صباح الخير أيها الحزن» صادماً عام 1954 حيث اعتبرت رواية جريئة فضائحية بيع منها أكثر من مليون نسخة وهو رقم قياسي في ذلك الوقت لتحقق ساغان ثروة أدبية ثمينة وتغدو نجمة ساطعة في المشهد الثقافي الفرنسي، وعليها نالت جائزة النقاد الأدبية الكبرى. وفي السنة الثانية من صدور الرواية تم اقتباسها إلى السينما وكتب يومها فرانسوا موريال الحائز نوبل للآداب: «لقد تم منح جائزة النقاد لوحش أدبي ساحر».
ساغان أدركت مبكراً أنها ستكتب رواية مهمة، فهي قارئة قبل أوانها، فمنذ صغرها كانت تطلب بدل هدايا عيد الميلاد كتباً، وقد ولد حب القراءة عندها من مكتبة المنزل في بيت جدتها، حيث كانت تقضي ساعات في القراءة، رفيقتها في المدرسة تقول كانت ساغان تقرأ كل الوقت حتى خلال الحصة الدرسية كانت غرفتها ملأى بمؤلفات أندريه جيد وألبير كامو وسارتر وبريفير أيضاً بلزاك وفلوبير وبروست ونيتشه، لذلك لم تر في نفسها سوى كاتبة وقد تنبأت بذلك.
في روايات ساغان تظهر أفكار الوجودية لسارتر التي تنحصر في تحرير الإنسان مما هو متصور عقلياً أمام وجوده الخاص بوصفه كائناً حراً يتوقف مصيره على قراره الشخصي فنجد: الحرية، القلق، العزلة، الخواء، ألم الحياة، اليأس… وهي كانت قد قرأت له «الغثيان» وهي طالبة في المدرسة وسحرت بها، روايتها الثالثة «في شهر، في سنة» بدت متأثرة جداً بأعمال الفيلسوف، حيث تطفو رائحة العدم على الحبكة، ساغان لازمت سارتر آخر عامين من حياته كانت تتناول الغداء معه في مقهى «كوبول» وتقضي الساعات باستحضار كلمات حب وقد تأثرت كثيراً برحيله.
في كتابها «أفضل ذكرياتي» 1984 تقول: «لم أتعاف أبداً بعد موته ماذا أفعل وبماذا أفكر؟.. لا أحد يستطيع أن يجيبني سوى هذا الرجل المذهل الصاعق الذي ملأ حياتي». من النقاط المشتركة بينهما أن كلاهما ولد في ذات اليوم من أيام الصيف 21 حزيران أيضاً تجمعهما قضية الالتزام والتوقيع على بيان 121 مثقفاً لدعم حق الجزائريين في تقرير مصيرهم عام 1960 والمساهمة في تظاهرات الطلبة في أيار 1968 التي اعتبرت طروحات ساغان بمنزلة بدايات المسار لهذا الحراك الطلابي تقول: كان سارتر الأكثر قرباً إلى قلبي فقد أحببته أكثر من الجميع علماً أن عشاقها كثر يمتدون من الكاتب الأميركي تينيسي وليامز إلى فرانسوا ميتران وعلى لسان إحدى شخصيات رواياتها تقول: «حين أحب فإلى حد الجنون ذلك هو الجنون بعينه، وأنا أرى أن هذه هي الطريقة الوحيدة التي ترضيني في الحب».
روايتها الجديدة «زوايا القلب الأربع» التي صدرت مؤخراً في باريس كانت ضربة دور النشر لهذا الموسم، مجلة توفيل أوبسرفاتور كتبت عنها تقول: هي الرواية الأخيرة لساغان التي لم تتوقف طوال حياتها عن الكتابة، حتى آخر نفس كانت ساغان امرأة حرة تعيش من دون حسابات تحرق صيفها مثل زيز الحصاد، انتهت حياتها بالمرض الذي أهلكها، فمن المحزن أن نتخيلها في كرسي متحرك، ولم يعد بمقدورها أن تشتري سيكارة بطعم النعناع، روايتها الأخيرة هي أيضاً سيرة ذاتية، فرجل الأعمال الثري لودفيل كريسون يتعرض لحادث سير مروع – كما حدث مع ساغان عام 1957 ونجت يومها بأعجوبة – زوجته ماري لور لم تعد تحب هذا الرجل المعاق، بينما فاني والدة ماري معجبة بصهرها وككل النساء من جيلها ترى فاني في عشاقها حماة لها، كم فرنسا جميلة تفكر فاني وكم حبيبي جميل وفي لحظة ما تجتاحها رغبة حادة تتعلق بذكرى مع لودفيل وهو وراءها فتلتفت إليه وتنعطف في الحال من دون أن تلمس حتى الأصابع، هذا الامتناع هذه الاستحالة ستكون إحدى الذكريات الأكثر شهوانية في حياة حبها، مرة أخرى تظهر ساغان بارعة حاذقة حرة بجرأة مشبعة بانفعال عواطف الغيرية، الغرابة، أناقة في الأسلوب تتيح لها المرور على دراما حية وجيزة، كل شيء يلتقي ويتيح لنا معاينة جديدة لحياة ساغان، وهذا ما يثير أكثر فاني كراولي تجعلنا نتذكر بيغي روش أحد عشاق ساغان أيضاً آن لارسن الشخصية الرئيسية في «صباح الخير أيها الحزن». الحلقة مشبوكة على بداية سهرة كبيرة يفترض أنها ستشهد تطورات كثيرة من دون أن نعرف النهاية، طلاوة الأسلوب التي تميزت بها ساغان لا تفارق الرواية والحوارات التي أصابت هدفها، وكثير من الوصف يلامس القلب، فنشعر أن ساغان موجودة، الجمل بين السطور وفي كل مكان نشتم رائحتها لكن للمرة الأخيرة، ثم إن أصدقاءها المذكورين في «زوايا القلب الأربع» بروست فلوبير، راسين، كامو لهم إيحاؤهم، تشكرهم لحضورهم في كل مرة، تجلس فيها على طاولة العمل ليلاً وهي تكتب في جو من الفوضى والسعادة.
لقد نجحت ساغان مرة أخرى في تسليتنا مع بورجوازية متوحشة مخادعة لم تتوقف يوماً عن توصيفها على طول رواياتها وتحليلها بدقة.
تقول: السهرة عظيمة، أتت مع مفاجآت الجميع، وكان الطقس جميلاً، كهدية السماء المرتفعة تبقى زرقاء ثم تؤول بهدوء إلى السواد كما الحياة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن