لم تفض جولة «أستانا 14» إلى إضافة الكثير على واقع الأزمة السورية بشقيه العسكري والسياسي، وهو أمر كان متوقعاً قياسا إلى مؤشرات عدة، فالمعادلات العسكرية التي أنتجتها التوافقات الأميركية التركية من جهة، والروسية التركية مضافاً لها تلك التي أبرمتها موسكو مع «قوات سورية الديمقراطية – قسد» من جهة أخرى، لم تستقر بعد على حال يجعل منها فعلاً قابلاً للاستثمار السياسي الذي يمكن له أن يفضي إلى تشكيل حالة يمكن البناء عليها، لذا فقد جاء البيان الختامي في سياق لم يخرج فيه كثيراً عن الجولات الثلاث الماضية، من حيث تركيزه على وحدة وسيادة الدولة السورية على أراضيها، ورفض الأجندات الانفصالية، مع التأكيد على وجوب عودة حقول النفط السورية إلى الحكومة السورية، وإن كان هذا البند جديداً قياساً إلى أن التوجه الأميركي بالسيطرة على تلك الحقول كان قد جاء ما بعد جولة «أستانا 13» التي انعقدت في شهر آب الماضي، ثم تأكيد ضرورة الحل السياسي وفقاً للقرار 2254.
وحده تصريح المبعوث الأممي غير بيدرسون الذي أطلقه في 10 كانون الأول الجاري وقال فيه إن البت في مسألة نقل جلسات «اللجنة الدستورية» إلى دمشق، من عدمه، هو أمر يعود للسوريين أنفسهم، وحده ذلك التصريح يشكل اختراقاً مهماً يمكن اعتباره مؤشراً على وجود «أضواء» خضر توافرت لديه، وهي تتعدى المنابع الضوئية الصادرة عن حضور «أستانا 14» لتشمل منابع أخرى من خارج الحضور، وهو تطور على درجة عالية من الأهمية نظراً لأن قبول الغرب بمسار كهذا يحمل في طياته الكثير من المؤشرات على وجود تغير في الأدوات المستخدمة للتعاطي مع الملف السوري، وهو ما يمكن لحظه في إقرار مجلس النواب الأميركي لقانون «قيصر» في 11 الشهر الجاري حيث من المقرر لهذا الأخير أن يقر قريباً في مجلس الشيوخ قبيل أن يرفع إلى الرئيس الأميركي دونالد ترامب فيصبح بعد توقيعه من هذا الأخير قانوناً نافذاً، والراجح هو أن القانون عندما سيصل إلى محطته الأخيرة هذه ستكون تغريدة ترامب التي سيعلن فيها من على منبر توتير انسحابه الرابع، لكن النهائي، من سورية قيد الإرسال، كما يخفف، أي نقل ملف اللجنة الدستورية، من حالة التشاد القصوى التي أدت إلى حال من شلل تام انتهت إليها اجتماعات اللجنة المصغرة أواخر تشرين الثاني الماضي، وفي مطلق الأحوال يمكن هنا القول إن المبعوث بيدرسون يبدو كأنه مالك لمجهر يفوق في قوة عدساته تلك التي امتلكها أسلافه، أو هو بمعنى آخر يبدو قادراً على جب التطورات اللحظية واتخاذ مواقف لحظية أيضاً قادرة على مواكبتها أو ترجمتها بشكل مثمر.
ما بعد «أستانا 14» يبدو أن المسار الذي كانت تراسيمه قد بدأت تتضح ما بعد التشرينين الماضيين، ماض هو الآخر في سياقاته السابقة، وفيه يبدو ترجيحاً لفعل عسكري تدريجي، لكن مستمر، في ملف إدلب فالتأكيد على وقف إطلاق النار في إدلب استثنيت منه الفصائل الإرهابية التي تمثل أغلبية القوى الفاعلة على الأرض في المحافظة، ولا تبدو أنقرة بعيدة عن التغريد خارج هذا السرب بل إن من الراجح أن تموضعاتها اللاحقة فيه سوف تكون أكثر «إيجابية» في المرحلة المقبلة قياساً إلى حالة الاحتياج التي فرضتها الاختلالات الناجمة عن الاتفاق التركي مع حكومة فايز السراج في طرابلس الغرب في 27 تشرين الثاني الماضي، والتي ستستدعي تقديم تنازلات تركية لموسكو في ملف إدلب تحديداً، وفي المقابل يبدو أن هناك تغليباً للفعل السياسي، مع لمسة لا تخلو من فعل عسكري مخفف، في ملف شرق الفرات الذي شهد في غضون الأيام العشرة الأخيرة الكثير من الفعل الأول والقليل من الفعل الأخير.
تظهر المقاربة السورية لملف شرق الفرات في ضوء الوقائع المتراكمة مؤخراً وكأنها ترتكز على محورين اثنين أولهما الدفع بعربة الحوار ومدها بالدعم اللازم لوصولها إلى مرافئها المرتجاة، وفي هذا السياق كانت زيارة وفد الأحزاب المرخصة من الحكومة السورية إلى القامشلي، وفيها التقت هذي الأخيرة أحزاب وفعاليات كردية، حيث تشير تقارير وتصريحات لبعض الحضور أنه جرى عرض مشروع «الإدارة المحلية» على هذه الأخيرة، وهو المشروع المنصوص عليه في القانون 107 الخاص بالإدارة المحلية المقر في دستور عام 2012، في مقابل التخلي عن مشروع «الإدارة الذاتية» الذي أقرته «وحدات الحماية الكردية» في تشرين الثاني من عام 2013، وثانيهما تطبيق الضغوط من النوع «الناعم» الأمر الذي يمكن لمسه في زيارة رئيس مكتب الأمن القومي علي مملوك للقامشلي في 5 كانون الأول الجاري ولقائه بوجهاء العشائر العربية، وفي تلك الزيارة، تقول تقارير، طلب مملوك ممن التقاهم سحب أبنائهم من صفوف «قسد» في مقابل انضمام هؤلاء إلى صفوف الجيش السوري، وهو فعل، إذاً ما حدث، فلسوف يشكل ضربة قاصمة لـ«قسد» ليس بسبب خسائر في الثقل فحسب، وإنما لأنها ستصبح في حينها ذات صبغة عرقية كانت واعية منذ البداية لخطورة ذلك الصباغ في ظل واقع ديموغرافي لا يميل إلى مصلحتها.
في المقابل كانت ردود «الأحزاب الكردية» على ما هو معروض عليها يتمحور حول نقاط عدة من نوع «لسنا انفصاليين ولسنا عملاء لأميركا» ونحن «نريد التنسيق وليس الانصهار» وبأن المفاوضات يجب أن تكون «بين «قسد» والحكومة السورية وليس بين أحزاب يمكن أن تكون معبرة عن وجهة نظر الاثنين».
هذه الطروحات تشير إلى معطيين اثنين أولهما هو أن خطاب «قسد» يبدو أنه غير مدرك بما يكفي للمتغيرات الهائلة التي استحدثتها تطورات «التشرينين» السابقين، وأن من شأن البقاء في مرحلة الإدراك السابقة الذكر أن يؤدي إلى استمرار سباق التتابع التركي الذي كبح جماحه بعد اتفاق سوتشي مع موسكو في 22 تشرين الأول الماضي، وهو ما يمكن تلمسه في تصريح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في مقابلة مع التلفزيون التركي في التاسع من الشهر الجاري عندما قال: «إن تركيا تركز مع روسيا والولايات المتحدة على عزمها على السيطرة على مدينة المالكية الواقعة في المثلث الحدودي التركي السوري العراقي»، ولإبراز أهمية خطوة كهذه تكفي الإشارة إلى أن المدينة فيها معبر «سيمالكا» غير الشرعي الذي أنشأته «قسد» في عام 2013 وهو يمثل الرئة التي تتنفس منها مؤسساتها، ومصدر دخل لا غنى عنه عبر جني الرسوم والضرائب، ناهيك عن أنه يمثل حبل المشيمة لتلقي الدعم اللوجستي الخاص بالأعمال العسكرية، وثانيهما أن الدائرة الضيقة في غرف صناعة القرار في «قسد» لا تزال تراهن على هبوب رياح مختلفة لتلك التي هبت فاقتلعت «الشجرة» من الجذور، وهو ما يبرز في المطالبة بالحفاظ على «الخصوصية»، والغريب في الأمر أن بعض الأصوات تراهن على موقف روسي «متفهم» لإمكان قيام نظام فيدرالي في سورية انطلاقاً من أن الاتحاد الروسي يقوم أصلاً على نظام كهذا نشأ على إيجاد 82 حالة من الاتحاد لكل منها خصوصيتها، وسذاجة الرهان تكمن في أنه يستند إلى إمكان استنساخ التجارب لمجتمعات مختلفة جذرياً في طبيعة تكوينها وفي تجاربها التي تغوص عميقاً في ذاتها الجماعية، ناهيك عن أن تلك الحالات كلها لا تمثل خطراً انفصالياً يتهدد الكيان وهو ما تعلنه أحزابها في أدبياتها الصريحة بعكس الحالة التي يبديها «حزب الاتحاد الديمقراطي» الكردي.
فعل السياسة الذي مارسته «وحدات الحماية الكردية» على امتداد سنواتها الست الماضية، هو فعل قام بدلالة الخارج، ليس في الدعم الذي كان يقدم له فحسب، بل بتوجيه دفة السفينة أيضاً، وهو ما تكشف بوضوح في غضون الأيام الستين الماضية، والتي أثبتت أن النسيج الذي استمدت حياكته بفعل ذلك الخارج هو أوهن من أن يقاوم الحرارة المتولدة عن عود ثقاب واحد، يبقى أن نقول إن ذلك الفعل لم يستطع على امتداد سنواته الست التقاط «اللحظة» التي تعني إلماماً بالتوازنات الراهنة ومعرفة حدود الممكن فيها ومن ثم تحديد الخيارات.