قضايا وآراء

تركيا.. أي مصير تنتظر؟

| محمد نادر العمري

تعتبر الأنظمة السياسية التي تشهد تنوعاً وتعدداً للأحزاب في تاريخنا السياسي الحديث والمعاصر، بأنها أكثر الأنظمة التي تتمتع بديناميكية الديمقراطية، ولكن في بعض الأحيان فإن هذا التعدد للأحزاب ببعض الأنظمة يكون بسبب قاعدة عكسية محورها الاستبداد الذي يفرضه الحزب الحاكم أو صانعو القرار في النظام السياسي، كما هو المشهد الحالي في تركيا، التي شهدت تطورات دراماتيكية متسارعة، تمثلت في بداية الأمر بزيادة نشاط أحزاب المعارضة وصولاً إلى اتساع انسحاب وطرد الكثير من قيادات كانت تعتبر أركاناً أساسية في حزب العدالة والتنمية وقيامهم بإنشاء أحزاب جديدة، نتيجة اعتبارات داخلية تتعلق بتسلط رجب أردوغان واستئثاره في احتكار صنع واتخاذ القرارات داخل الحزب ونظام الحكم على حدٍ سواء، وكذلك تراجع النمو الاقتصادي وزيادة الاستبداد الأمني والقضائي، فضلاً عن استمرار النظام التركي بالتدخل بالأزمات الإقليمية والدولية بهدف زيادة نفوذه الخارجي وتوسعه عبر تعميم نموذج الإخوان المسلمين، الأمر الذي أدى إلى تراجع مؤيديه وزيادة خصومه الداخليين والخارجيين.
فإعلان وزير الخارجية الأسبق ومن ثم رئيس الوزراء الأسبق وأحد أهم منظري حزب العدالة والتنمية أحمد داوود أوغلو، عن تأسيس حزب «المستقبل» الجديد لم يأتِ مصادفة بهذا التوقيت السياسي ولن يكون الإعلان الأخير فيما يتعلق بتشكيل الأحزاب الجديدة، بل هناك بعض المعلومات التي تتحدث عن توجه وزير الاقتصاد السابق وأحد مؤسسي حزب العدالة علي باباجيان لتشكيل حزب جديد بدعم من رئيس تركيا السابق عبد الله غول، مما سيضع حزب العدالة والتنمية أمام تحديات مصيرية ووجودية، في مقدمتها المحافظة على شعبيته وإنتاج نخب سياسية توازي هذه النخب من حيث الكاريزما والثقل السياسي ورسم السياسات.
هذا الواقع أيضاً قد يضع تركيا أمام مشهد معقد وأكثر تأزيماً خلال الفترة القادمة، وخاصة في حال استطاع حزبا أوغلو وباباجيان الجديدان جذب قرابة 10 بالمئة من مجموع عدد الناخبين الكلي في تركيا وفق بعض التقديرات، لأن ذلك يعني تقلص مؤيدي أردوغان لأقل من 35 بالمئة، وخاصة بعد ما كشفته نتائج استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «بيار» بداية كانون الأول 2019 أجري في 26 ولاية تركية قبل الإعلان عن تأسيس الأحزاب الجديدة تفيد أن 44.5 بالمئة من المستطلعين أعلنوا أنهم سيصوتون لإمام أوغلو مقابل 39.7 بالمئة قالوا إنهم سيصوتون لأردوغان، الأمر الذي قد يدفع هذه الأحزاب الجديدة بالتوافق مع أحزاب المعارضة التقليدية إلى دفع الشارع نحو احتجاجات مطلبية قد تصل نحو المطالبة بإجراء انتخابات رئاسية مبكرة في ظل انتعاش هذه الاحتجاجات على مستوى المنطقة ووجود الكثير من الفاعلين السياسيين «الإقليميين والدوليين» الخصوم لأردوغان الذين ينتهزون فرصة الانتقام.
لكن بالعودة لتشكيل حزب «المستقبل»، لابد من التوقف عند ثلاث نقاط تدعو للاهتمام:
*أولاً: التوقيت السياسي لتشكيل هذا الحزب، فهو جاء بعد فصل عدد من قيادات العدالة بمن فيهم داوود أوغلو وباباجيان وغول، وتصاعد وتيرة التصريحات والتهديدات المتبادلة وبصورة أخص بين أردوغان وداوود أوغلو حول فضح ملفات الفساد وكشف محتوى الصندوق الأسود، الذي من المتوقع أن يبدأ بالتداول الإعلامي خلال الفترة اللاحقة لتأسيس حزب «المستقبل» للحصول على غطاء قانوني وسياسي من داوود أوغلو أولاً، وبهدف الانتقام من أردوغان ثانياً، ولمحاولة كسب تأييد شعبي واستقطاب المزيد من المنسحبين من العدالة والتنمية لصفوف الحزب الجديد ثالثاً، ولاسيما أن عدد المنسحبين تجاوز 400 ألف شخص منذ أيلول لبداية كانون الأول من عام 2019. وهذا ما توعد به أحد مؤسسي حزب المستقبل أورهان أوغلو، وهو وزير سابق بالعدالة والتنمية، عبر تصريح له لصحيفة «بيني جاغ» المعارضة بقوله: «سيأتي اليوم الذي يكشف فيه أسرار الصندوق الأسود لأردوغان من دون أن نكشف أسرار الدولة».
*ثانياً وهي النقطة المتمثلة بضم حزب «المستقبل» التركي لأحد أبرز أسماء ما يسمى المعارضة السورية ورئيس ائتلافها المدعو خالد الخوجة ضمن قائمة المؤسسين الضيقة حيث ورد أسمه في المرتبة 17 من أصل 154، بمسمى «ألبتكن هوجا أوغلو» الأمر الذي وصفه البعض بأنه توظيف للمعارضة السورية من النظام التركي، في حين يمكن قراءة ذلك ضمن بعدين أساسيين:
1. رغبة داوود أوغلو وحزبه الجديد في استثمار ضم المدعو خالد الخوجة الحاصل على الجنسية التركية، باعتباره أحد رموز المعارضة السورية، لاستمالة واستقطاب أكبر قدر من السوريين الذين تم تجنيسهم خلال السنوات الماضية للانضمام لصفوف الحزب الجديد والذين تجاوز عددهم أكثر من 100 ألف متجنس وحرمان أردوغان من توظيفهم الداخلي سواء فيما يتعلق بالتغير الديموغرافي أم دعم شعبية العدالة والتنمية.
2. هذه الخطوة تنبئ بمرحلة جديدة تعبر عن حجم الصراع الحاصل في تركيا الذي يمكن وصفه باستثمار كل الوسائل الممكنة من قبل الفرقاء والخصوم المتعددين للإطاحة بالطرف الآخر ووضع حد لحياته السياسية، فأردوغان وظف ما سمي الحكومة المؤقتة والجيش الوطني وملف اللاجئين ومخاطر الإرهاب لتوسيع نفوذه الخارجي وتمتين سلطته داخلياً، في حين يبدو أن ملف المجنسين واللاجئين والعلاقة مع سورية ستكون ورقة رابحة بيد المعارضة، فالجامع ما بين الصورة التي خرج بها ما يسمى وزير الدفاع بالحكومة المؤقتة سليم إدريس، ليعلن عن تشكيل ما يسمى الجيش الوطني، والثانية التي قدم بها خالد الخوجة على أنه أحد مؤسسي حزب المستقبل، هو وجود العلم التركي خلف الاثنين والتوظيف التركي لهؤلاء في سياستهم.
*ثالثاً: قدرة الأحزاب الجديدة بما فيها المستقبل على الدخول في صيغة توافقية وائتلافية مع باقي القوى المعارضة لأردوغان للحد من تسلط الأخير ودعم مرشح يتم الاتفاق عليه في الانتخابات الرئاسية القادمة، وعدم حصول اختلاف وتناقض على هذه الشخصية أو أن تتعدد الشخصيات المرشحة بما يؤدي لفقدان وتشتت القوة الشعبية المتراكمة لجزئيات صوتية، وهو ما يراهن عليه أردوغان في ظل وجود عوامل تمثل سيفاً ذا حدين أو وجهين، فكل من داوود أوغلو وعبد الله غول وكمال أتاتورك وعلي باباجيان يرون في أنفسهم شخصيات تستحق الوصول للحكم، وهم في الوقت ذاته لديهم علاقات خارجية جيدة ومتينة وخاصة غول الذي تربطه علاقات مع السعودية وأتاتورك وباباجيان مع دول الأوروبية، الأمر الذي قد يدفع هؤلاء لترشيح أنفسهم، وفي الوقت ذاته يمنحون أردوغان فرصة لانتهاز علاقاتهم الخارجية لزيادة شعبيته من خلال زعمه حماية القومية التركية من التدخل الخارجي.
من المؤكد أن تركيا أمام مفصل أو مسار سياسي قابل للتعديل أو التغيير نتيجة التحالفات والعلاقات السياسية الداخلية البينية ونتيجة التطورات الإقليمية والدولية وتؤثر تركيا بها، ولكن من المؤكد أكثر أن المعارضة التركية أمام فرصة تاريخية لإسقاط نظام التسلط الأردوغاني في حال توافقها على المصلحة العليا، أما عكس ذلك فإنها مهددة بالسقوط التاريخي والمدوي.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن