عقد في السابع والعشرين والثامن والعشرين من الشهر الماضي منتدى أمن الشرق الأوسط في العاصمة الصينية بكين، وهو الأول من نوعه في هذا المجال، بمشاركة عشرات الباحثين من الصين ودول المنطقة. وقد تم خلال المؤتمر عقد أربع جلسات قدم في كل منها عشرة باحثين أوراقاً بشكل مقتضب، واشتملت المواضيع على شؤون التعددية والعدالة والتنمية وحوار الحضارات ودور كل منها في تحقيق الأمن المستدام والشامل والمتكامل في منطقة الشرق الأوسط.
وفي كلمته التي ألقاها خلال افتتاح أعمال المنتدى، قال تشن شياو دونغ مساعد وزير الخارجية الصيني: إن الشرق الأوسط جزء مهم للتبادل والتفاعل الصيني مع العالم، ودائماً ما تولي الصين أهمية بالغة لقضايا المنطقة حيث تشارك فيها بفعالية، وتعمل على تعميق العلاقات بينها وبين دول المنطقة، وتسعى لتوسيع نطاق التعاون ذي المكاسب المتبادلة، بهدف تحقيق مصالح الشعب الصيني وشعوب المنطقة. وأضاف تشن: إن الأمن والسلام والاستقرار والتنمية للمنطقة هو ما ترغب فيه الصين ويهم مصالحها، ما يلقي مسؤوليات على عاتقها، وذكر تشن أن إقامة المنتدى تهدف إلى بناء منصة تستفيد منها الأطراف المعنية في إيجاد أفكار وسبل جديدة لتحقيق أمن الشرق الأوسط. وأشار تشن إلى رغبة الصين في بذل جهود مشتركة مع الأطراف المعنية في الحفاظ على الاستقرار والتنمية في الشرق الأوسط، للمساهمة في دفع السلام المستدام والأمن الشامل في العالم.
أتت الورقة التي قدمتها مؤسسة وثيقة وطن ضمن محور التعددية وأهميتها في حل قضايا المنطقة وقد أكدت على أربع نقاط أساسية. أولاً، أن النظام الأحادي القطبية الذي ساد في العالم بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ونهاية الحرب الباردة والذي تميز بهيمنة أميركية مطلقة كان السبب الرئيسي لحالة عدم الاستقرار التي عاشها العالم والمنطقة في العقود الثلاثة الماضية. أن التفرد الأميركي والسياسات الغربية أحادية الجانب مثل غزو العراق عام ٢٠٠٣ وتدمير ليبيا عام ٢٠١١ والحرب على سورية المستمرة من تسعة أعوام قد أدت إلى غياب الأمن عن المنطقة والعالم ووفرت الظروف المناسبة لظهور الجماعات الإرهابية المتطرفة. وفي الحالة السورية، فإن استخدام روسيا والصين لحق النقض الفيتو في مجلس الأمن لإيقاف قرارات مدعومة غربية تستهدف سيادة سورية وسلامة أراضيها وشؤونها الداخلية قد أعاد بعضاً من التوازن إلى المنظومة الدولية ومنع الولايات المتحدة لأول مرة منذ نهاية الحرب الباردة من تحقيق ما تصبو إليه من تدخل سافر في الشؤون الداخلية لدولة مستقلة. إلا أن مزيداً من العمل لا يزال مطلوباً لتحقيق توازن كامل في النظام الدولي.
في المحور الثاني تحدثت الورقة عن ضرورة وجود جهد تعددي حقيقي في مكافحة الإرهاب. ولكن، وقبل ذلك، ناقشت الورقة بعضاً من أسباب ظاهرة الإرهاب، وبشكل أساسي الدعم والتمويل والتسليح الذي تلقته وتتلقاه المجموعات الإرهابية في سورية من قوى إقليمية ودولية والتي استعملت الإرهاب لتحقيق مصالحها رغم تبجحها اليوم بمحاربته. كما أكدت الورقة ضرورة التمييز بين الجهود الحقيقية لمكافحة الإرهاب، كتلك التي تقوم بها الجمهورية العربية السورية لتحرير أراضيها من هذه الجماعات، وبين ما تقوم به الولايات المتحدة ومن انضم إليها في «التحالف الدولي لمحاربة داعش»، حيث يدعون محاربة الإرهاب ويستعملونه غطاء لمشاريع أخرى. فتحت حجة محاربة ما يسمى تنظيم داعش، تحتل الولايات المتحدة اليوم جزءاً مهماً من الأراضي السورية، فهي تقيم قاعدة عسكرية على معبر التنف قاطعة بذلك التواصل بين سورية والعراق، كما تحتل حقول النفط في منطقة الجزيرة السورية حارمة الشعب السوري من مقدرات بلاده. أما تركيا، والتي تدعم وتسلح وتمول جبهة النصرة وتحميها عبر قواعد عسكرية غير شرعية على الأراضي السورية، فتستعمل ذريعة «محاربة إرهاب حزب العمال الكردستاني» لاحتلال آلاف الكيلومترات من الأراضي السورية ونهبها.
في المحور الثالث أكدت الورقة أن لا أمن ولا سلام ولا استقرار في منطقة الشرق الأوسط من دون عودة الحقوق إلى أصحابها الشرعيين، أي عودة الجولان العربي السوري المحتل وحقوق الشعب الفلسطيني كاملة وفق قرارت الشرعية الدولية. وإن غياب التعددية في هذا الإطار يعمق مشاكل المنطقة، إذ تتخلى الولايات المتحدة بشكل كامل عن أي دور لها في عملية السلام (وهي لم تكن يوماً وسيطاً نزيهاً) عبر اتخاذ قرارت أحادية الجانب فاقدة لأي شرعية ومنها الاعتراف بسيادة الكيان الصهيوني (الذي هو أصل كل إرهاب شهدته المنطقة منذ سبعين عاماً) على الجولان العربي السوري المحتل والاعتراف بالقدس عاصمة لهذا الكيان وبشرعية المستوطنات الصهيونية في الضفة الغربية. حيث تحتاج المنطقة اليوم إلى تعددية دولية حقيقية تكون الصين وروسيا في طليعتها وتؤكد ضرورة الالتزام بالشرعية والقانون الدوليين ومقتضيات العدالة وذلك في سبيل إعادة الحقوق إلى أصحابها الشرعيين ولجم عربدة الكيان الصهيوني المتمادية، وإلا فلا أمن ولا سلام في المنطقة ولو تم دحر الإرهاب وتعزيز التنمية الاقتصادية.
في المحور الرابع تحدثت الورقة عن وجوب قيام نظام اقتصادي دولي متعدد يحقق التنمية والرفاه لجميع الشعوب بشكل عادل ومتساوٍ. إن غياب التعددية في هذا المجال مكن الولايات المتحدة من بسط سطوتها على النظامين الاقتصادي والمالي العالميين وحرمان من تريد من المشاركة فيه. وإن الحروب الاقتصادية لا تقل خطورة اليوم عن الحروب السياسية والعسكرية بل هي امتداد لها. إذ ذكرت الورقة الحاضرين بما تتخذه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي من إجراءات قسرية أحادية الجانب اقتصادية ومالية ضد الشعب السوري والتي تحرمه من استيراد أمور أساسية كالأدوية والقمح ووقود التدفئة وتهدف لمنع أي عملية تعافٍ اقتصادي وإعادة بناء. وهنا يمكن للصين أيضاً لعب دور جدي في إقامة نظام اقتصادي دولي أكثر تعددية وعدلاً من خلال «مبادرة الحزام والطريق».
أما بالنسبة للمشاركين من باقي الدول العربية فقد تركزت كلماتهم على مهاجمة الجمهورية الإسلامية الإيرانية وكيل الاتهامات لها دون تقديم أي رؤى واضحة تقابل ما قدمه الجانب الصيني من أوراق رصينة مدروسة بعناية. وكادت قضية فلسطين أن تغيب عن المنتدى لولا تذكير الجانب الصيني بها وتأكيده على أن القضية الفلسطينية هي «القضية الجذرية» في منطقة الشرق الأوسط وأن لا إمكانية لتحقيق الأمن في المنطقة من دون إيجاد حل عادل لها. كما أن قضايا حيوية للأمن القومي العربي كالعلاقة مع إثيوبيا مثلاً كادت أن تغيب أيضاً لولا تذكير أحد المشاركين (وهو ليس مصرياً) بهذه القضية المهمة رغم حضور العديد من الباحثين من جمهورية مصر العربية.
يلمس من شارك في هذا المؤتمر درجة الانهيار التي وصل لها الواقع العربي وعجز العرب عن تقديم أي «جملة مفيدة» حول مستقبل منطقتهم، واكتفاؤهم باتخاذ دور الضحية أمام الجمهورية الإسلامية الإيرانية، متناسين ما تقوم به كل من تركيا والكيان الصهيوني من اعتداءات متكررة واحتلال لأراضٍ عربية. ففيما تطرح الصين «مبادرة الحزام والطريق» والتي تمثل رؤية اقتصادية شاملة تهدف لربط الدول ببعضها، يبدو العرب اليوم، وخاصة من أتى منهم من منطقة الجزيرة العربية، متفرقين متناحرين يبحث كل منهم عن مصلحته الشخصية، وفي أحسن الأحوال عن راعٍ جديد لأمن عروشهم في ظل انسحاب الولايات المتحدة التدريجي من قضايا الأمن في المنطقة.
مؤسسة وثيقة وطن