ثقافة وفن

«العالم كما يراه إينشتاين».. بحث عن سلام وانحياز لليهود … نزع السلاح لا يتم تدريجياً، إما دفعة واحدة وإلا فلا..

إسماعيل مروة :

ألبرت إينشتاين ليس عالماً رياضياً وفيزيائياً على مستوى العالم وحسب، بل إنه يتميز عن غيره من علماء الرياضيات ونوبل بآرائه الفكرية والفلسفية، ولولا اشتهاره بالنسبية أهم نظريات العالم، لكان إينشتاين فيلسوفاً متفكراً متأملاً، فما تركه من تأملات وأقوال ومراسلات يضعه في مصاف الفلاسفة أصحاب الرؤى والأفكار.
«العالم كما أراه» كتاب صدر حديثاً في العربية من ترجمة الأستاذ فاروق الحميد، ونشر دار التكوين بدمشق يحمل رؤية إينشتاين للعالم، ابتداء من ذاته، وصولاً إلى علاقته بالآخر، ويقدم آراء إينشتاين الإشكالية في الحرب والسلم، ورأيه في الحضارة الأوروبية والأميركية، ولعلّ أهم ما يحتويه الكتاب آراء إينشتاين الدينية واليهودية، وعلاقاته مع المنظمات الصهيونية، ومراسلاته الموجهة لليهود والعرب من أجل بناء دولة تضم المجموعتين، كما يرى العالم الباحث عن السلام في كل شيء.

إينشتاين والحرب
لم يقدم إينشتاين أي مسوّغ للحرب، ولم يبحث لها عن أسباب، ولم يبحث عن حرب عادلة وأخرى غير عادلة، ولا عن حرب لقضية وأخرى لا قضية لها، بل كان حاداً في رأيه بالحرب، رافضاً لها بأي شكل من الأشكال، وعلى الرغم من مكانته العلمية والفكرية لم يتم الالتفات إلى رأيه حتى من اليهود الذين ينتمي إليهم، وانتماء إينشتاين لا لبس فيه، وهو في كثير من آرائه يخاطب اليهود، ويجتمع إليهم ليقدم رأيه في بناء الدولة اليهودية «كم أكره كل هذه المظاهر، وكما أحتقر الحرب التي تبدو في غاية البشاعة، أفضّل أن أقطّع إلى قطع على أن أشارك بهذا الحدث البائس، وعلى الرغم من كل شيء لا أزال أرى الخير في البشرية التي أؤمن أن هذا المحصول سيتلاشى منذ وقت طويل لو لم يكن حسّ الشعب السليم قد تعرض للتشوه والإفساد بشكل منهجي من خلال المدرسة والصحافة واختصاصي العالم السياسي ورجال الأعمال».
فالحرب حدث بائس مكروه عند إينشتاين، ولكن شأنه شأن الفلاسفة والمفكرين الآملين بالغد، فإنه يؤمن بأن التشويه الممنهج من الإعلام والثقافة سيذهب أدراج الرياح، وسيعود الناس إلى الحس السليم بالحياة الآمنة، لكن ما يأسف له، هو أن هذه الحرب ستحصد الكثيرين، لذلك يحتقرها، ويراها بهذه البشاعة، وربما من هنا كان موقف إينشتاين من المآسي التي تعرض لها شعبه اليهودي، ولم يستطع المفكر والعالم أن يخرج من عباءته الدينية التي ينتمي إليها وهو يتحدث عن المآسي التي تعرض لها اليهود، ولم ينظر إلى المآسي التي سببها اليهود للشعب الفلسطيني، مع أنه لم يشارك شخصياً في هذه المأساة أو في صنعها، لكنه على كل حال تجاهلها تجاهلاً تاماً، ودعا إلى تعايش مكونات المجتمع الفلسطيني واليهودي في فلسطين، وأسبغ على زعماء الحركة الصهيونية صفات التوقير والاحترام!

إينشتاين واليهودية
والانعزال الذي رآه من العلماء وامتدحه لم يأخذ هو به «هذا الشعور هو ما أحس به، وهو ما عرفه كبار العلماء بشغف ووله، حتى في الظروف السياسية المعقدة إذ ظلوا منعزلين ضمن وسطهم الضيق مع زملائهم.. فهل بقي إينشتاين منعزلاً ضمن الدائرة الضيقة من زملائه؟ وماذا عن تواصله مع زعماء الصهيونية، ومراسلاته مع قادتها وجمعياتها؟
في رسالة إلى صديق للسلام يقول:
«يخطر لي، مدفوعاً بعظمة روحكم، وقلقكم على مصير البشرية أن أهنئكم بصمت ومهابة.. لتنظر الشعوب كم يجب عليها من التضحية باستقلالها من حرب الكل ضد الكل، إن قوة الوعي والفكر العالميين بدتا ضعيفتين جداً على الدوام… هناك حالة توفيقية ليست سوى جريمة بحق الإنسانية المعذبة نضفي عليها صفة حكمة سياسية».
وعندما يتحدث عن اليهودية يقول في مواصفاتها:
«الإصرار على الحق في الحياة لجميع الخلائق، فحياة الفرد ليست بذات معنى إن لم تعمل على تحسين وجود جميع الكائنات الحية- إله إسرائيل ليس سوى رفض للخرافة، التقليد الأخلاقي للشعب اليهودي تحرر من الخوف في المعنى الواسع للكلمة، من الواضح أيضاً أن خدمة الله أصبحت تساوي خدمة الكائن الحي».
ويخاطب الشباب اليهودي عن فلسطين واغتصابها ما يمكن أن نستغربه: «نستطيع اليوم أن ننظر إلى الوراء برضا وارتياح، لأنه خلال هذه السنوات العشر، نفذت القوى المتحدة للشعب اليهودي في فلسطين أكثر مما كنا نجرؤ على الحلم به، إن عملاً عظيماً في البناء قد توج بنجاح كبير»!
ما قام به الشباب اليهودي يراه فوق الحلم بسبب انتمائه، والمبادئ الدينية اليهودية يخرجها عن إطار شعب الله المختار، ليضعها في خدمة الإنسانية، فالمبادئ اليهودية ليست عنصرية ولا خاصة، ولا تملك صفة تفضيل اليهودي، بل إن كل ما تحمله اليهودية هو لخدمة الكائن الحي كما يرى! ويضرب لذلك مثل الصيد والكلب، فهل ما يعنيه المفكر والعالم بالكائن الحي غير الآدمي؟!
وما وصف به اليهود يكفي للدلالة على الانحياز الذي مثله إينشتاين: «إنها جماعة ذات تقاليد أخلاقية أثبتت في زمن الشدائد قوتها، وقدرتها الحيوية عبر العصور، وأنجبت رجالاً جسدوا معرفة العالم الغربي، وكانوا المدافعين عن الشرف والعدالة الإنسانية»! فإذا كان اليهود كذلك في نظر إينشتاين، فماذا عن اليهود الذين نعرفهم؟ المطلوب أن نقرأ الانتماء ونعرف آلياته، أو نعيد النظر في معرفتنا لليهود واليهودية!.

اليهود في فلسطين
«إذا سلكنا الدرب الصحيح، فسوف ننجح، ونعطي المثال الأفضل للشعوب الأخرى، إن ما نقوم به في فلسطين هو عمل من أجل كرامة، وسلامة كل الشعب اليهودي»!
وعن بناء المستوطنات الإسرائيلية في فلسطين يقول إينشتاين: «عبر هذا التصور بالتضامن اليهودي الذي استيقظ مجدداً، نفّذ عمل بناء المستوطنات في فلسطين بقيادة زعماء مخلصين أوفياء وحذرين.. سوف تصبح فلسطين مركزاً للثقافة لجميع اليهود، وملجأ للأكثر اضطهاداً منهم، وستصبح ساحة عمل للأفضل بيننا، ومثالاً يجمعنا، أخيراً ستصبح شفاء روحياً من أجل اليهود في العالم كله».
هل هناك دعوة أكثر صراحة من هذه، ومن رجل بمكانة إينشتاين العلمية العالمية لليهود بأن يتجمعوا في فلسطين، مع ملاحظة أن كلمة فلسطين قد تكون من وضع المترجم، وقد وضعها بين قوسين؟ بل إن إينشتاين يصف اليهود الذين يقصدون فلسطين بأنهم الأفضل، ويصف الوجود اليهودي بأنه شفاء!!
أما عن النظرة السامية المتعالية فتظهر جلية في قوله: «علينا أن نعي بوضوح أننا من جنس مختلف، وأن نستخلص النتائج من هذا الوعي، هذا لا يعني أن نحاول التكافؤ من خلال قهر الآخرين والتغلب عليهم من خلال الأشكال المختلفة للاستنتاجات لأن طريقهم في السلوك لا تستند إلى جذر علمي في العقل».
أبعد هذا الوضوح في التعالي على الآخرين شك في انحياز العالم الكبير إلى أصله؟
أليست أكثر دعوة لتفضيل السامية اليهودية فجاجة من صاحب العقل عندما يرى الآخرين لا يستندون إلى العقل الذي يمتلكونه؟ أليس هذا دافعاً لتغيير رؤيتنا للعالم والصراع، والابتعاد عن المنظور العاطفي والغيبي العاجز عن تحقيق أي شيء في حكم العالم وتحقيق العدالة؟
ألبرت إينشتاين مفكر وعالم من مستوى عالٍ، خاض حروبه من أجل الحرية والسلم والسلام، ولكنه كان من أكثر المتحمسين للمستوطنات ووطن اليهود في فلسطين، دافع كما لم يفعل غيره عن تميز اليهود، وهو مقنع للآخر لأنه إينشتاين، وهنا تكمن خطورة أن يتوجه مثله بالنداء أو الدعوات التي لو نادى بها الجميع فلن تفلح، ومن الواجب أن نعلم أن مثل هذه النخبة التي روجت لليهود ومعاناتهم هي التي كرست الفهم الغربي للمسألة العربية واليهودية قبل أن تفعل اللوبيات فعلها!!
فهل خرج منا من يقدر على فعل جزء من هذا لقضايانا؟!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن