من دفتر الوطن

الوطن أمٌّ تَلمّ

| حسن م. يوسف

عندما يرفع أحدهم يديه صارخاً بمجرد رؤيته لي: «جئت والله جابك» أنكمش متوجساً، فكلما قرعت هذه العبارة أذني أجد نفسي في موقف غير مريح، فهي قد تكون مقدمة لطلب الاستدانة، وهذا أهون الشرور، إلا أنها غالباً ما تستخدم لطلب خدمات لا طاقة لي بها، كإطلاق سراح سجين، أو العثور على وظيفة أو استثناء من السيد رئيس الحكومة… الخ
لهذا انكمشت عندما صاح أبو الشهيدين: «جئت والله جابك». وخاصة أنني أكن للرجل الكثير من التقدير والمحبة.
قال الرجل بانفعال ودون مقدمات: «أكيد شاهدت ذلك اللقاء الذي أذيع في برنامج «صباح الخير» على الفضائية السورية؟»، ثم قطب حاجبيه كما لو أنه يحاول أن يتذكر شيئاً، فقلت له مساعداً: «تقصد لقاء تهامة بيرقدار التي كانت تشتغل مذيعة في قناة «أورينت»!
لمع الغضب في عينيه، قال بعد أن ابتلع لعابه: «أنا يا أخي فلاح بسيط، أعرف حدي، ولا أريد أن أعلم الحكومة من تحاسب ومن تسامح، لكنني، والله شهيد، شعرت بالدم يطلع إلى رأسي عندما سمعت تلك المذيعة تقول إنها جاءت لسورية حتى تقدم شيئاً من أعمالها الخيرية لأهلها وناسها بالداخل السوري. يا عمي مجنون يحكي وعاقل يسمع! هل يجوز من الله أنه واحدة… «تابع متهكماً»… كانت تطلع على قناة أورينت العميلة الشريكة في سفك الدم السوري، تجي وتطلع على شاشة الفضائية السورية بوصفها مغتربة سورية وسيدة أعمال، ويصفونها بأنها «من المصرين على المشاركة في إعمار البلد وبناء الإنسان»؟
هل من المعقول أن يسمح لها بأن تقول لنا، نحن أهل الشهداء، إنها تريد أن تحسن علينا! هل من المعقول أن يسمح تلفزيون البلد بالإساءة لأهل الشهداء على شاشته! وهل يعقل أن يسمح لها بأن تشارك بحفل لأبناء الشهداء في مدارس أبناء الشهداء التي كانت قناتها شريكة في سفك دماء آبائهم!
أعترف أن سؤال هذا الرجل البسيط قد أربكني بحيث التزمت الصمت للحظات. قلت لوالد الشهيدين متعاطفاً: «أفهم وجعك يا أخي لكن المذيعة المذكورة قالت إنها كانت بحاجة للتدريب فترة من الزمن، وراسلت أكثر من جهة، فكانت قناة «أورينت» هي الطريق الأسرع، وهي تبرئ نفسها من سياسة تلك القناة لأنها «حرصت» على الظهور في نشراتها الاقتصادية فقط».
لوى والد الشهيدين عنقه وقال بمرارة وهو يبتعد: «هل يعقل أن يكون الانتقام لدم الشهداء هكذا؟ هل من أجل هذا ضحينا بأبنائنا؟».
لوالد الشهيدين أقول: اعلم يا أخي أن الدولة لا تنتقم من مواطنيها المخطئين بل تخضعهم للقانون، وهي إذ تمنع المواطنين من استخدام العنف ضد بعضهم، تحتكر حق استخدام العنف لنفسها، لمعاقبة من يستخدم العنف ضد الآخرين. والعفو من شيم الأقوياء فقد قال أبو جعفر محمد المنتصر بالله: «لذة العفو أعذب من لذة التشفي وأقبح أفعال المقتدر الانتقام». وقد قال الأديب الكبير نجيب محفوظ: إن «التسامح هو أكبر مراتب القوة، وحب الانتقام هو أول مظاهر الضعف».
ونحن لم نقدم كل هؤلاء الشهداء مجاناً، كما تقول، بل قدمناهم كي يستيقظ الغافلون من أبناء وطننا، فالوطن أمّ، والأمُّ تلمّ، كما يقول المثل. وعندما يستيقظ أحد ما فالفضل في ذلك يرجع لتضحيات شهدائنا أولاً وأخيراً.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن