مع استخدام روسيا والصين لحق النقض في مجلس الأمن ضد قرار يخص المساعدات الإنسانية لسورية عبر الحدود، فإنهما تثبّتان شكلاً للعلاقات الدولية يتجاوز ما تم اعتماده منذ بداية التسعينيات من القرن العشرين؛ عندما أصبح التدخل الإنساني جزءاً من الآليات الدولية لفرض واقع سياسي مختلف، وآخر تجربة في هذا الإطار حدثت في ليبيا، وأدت عملياً لتبديل الكثير من المعطيات وإشعال حالة الفوضى.
بالتأكيد فإن مسألة الوضع الإنساني تشكل عقدة أساسية في العلاقات الدولية، ومجال صراع واضح عبرت عنه الأزمة السورية منذ بدايتها، فالعلاقات الدولية قدمت نموذجاً في بداية التسعينيات لعمليات التدخل الإنساني في يوغوسلافيا والصومال وغيرها، وبغض النظر عن النتائج المباشرة لهذه التدخلات، لكنها على المستوى السياسي كانت تقوم على تصفية التكوينات السياسية التي رافقت الحرب الباردة.
عملياً فإن التجربة الدولية في سورية تعرضت لانتكاسة أولية في الرابع من تشرين الأول عام 2011، فهذا التاريخ كان فاصلاً بشأن السياسة الدولية، حيث مثل الفيتو الروسي ضد قرار بفرض عقوبات على الحكومة السورية اعتراضاً على استخدام الشرعية الدولية، واستخداماً كغطاء لخلق تداعيات تفرض في النهاية تدخلاً عسكرياً بغطاء إنساني، ومع استمرار روسيا والصين لاستخدام حق النقض بخصوص الأزمة السورية برزت مسألتان:
– الأولى هي عدم القدرة الدولية على اعتماد معايير موحدة بشأن السياسة تجاه مناطق الأزمات، فالعقوبات أصبحت خارج إطار مجلس الأمن، وهذا الأمر قدم عالماً مختلفاً ومنقسماً رغم وجود الجميع ضمن منظمة دولية واحدة هي الأمم المتحدة.
العقوبات خارج المنظمة الدولية ربما كانت أقسى، وأدت لعرقلة الكثير من العمليات الاقتصادية التي تخص المواطن السوري، ولكنها في الوقت ذاته ساعدت على خلق هوامش عريضة في التعامل السياسي، فنموذج إخراج سورية من الجامعة العربية لم يتكرر في الأمم المتحدة، واستمرار عدد كبير من السفارات في دمشق أوضح أن الآليات الدولية باتت تخضع للصراع الذي فرضته روسيا منذ أول فيتو استخدمته بخصوص الأزمة السورية.
– المسألة الثانية شكلتها تدريجيا العقوبات التي اتخذت بشكل إفرادي ضد سورية، فرغم أنها طالت الحكومة السورية، لكنها في المقابل كانت تسعى إلى تقييد حركة الاقتصاد لبعض الدول مثل روسيا وإيران وحتى الصين.
الشكل الذي فرضته موسكو في التعامل مع تعقيدات السياسة الدولية بشأن الوضع الإنساني لم توجد بعد حلولاً للكثير من المسائل، فالسوق الدولية غير قادرة على تجاوز القرارات الأميركية على وجه التحديد، وفي الوقت نفسه فإن الكتلتين الفاعلتين في هذا الأمر: روسيا والصين، لا تستطيعان إيجاد فصل مطلق في المصالح الاقتصادية مع الولايات المتحدة، وظهرت المشكلة بوضوح عندما تم طرح «إعادة الإعمار» في سورية، حيث احتاجت روسيا إلى غطاء شرعي للتعامل مع هذا الأمر، ولم تستطيع توفير هذا الغطاء رغم كل الجهود الدبلوماسية.
تعرف الولايات المتحدة أن «قانون قيصر» لن يؤدي لنتائج واضحة ما لم يتم دعمه بقرارات دولية، وهذا الأمر يعقد ليس فقط من التأثير الاقتصادي بل من إمكانية التوصل لحلول سياسية، لأن واشنطن ستبقى متمسكة بأوراقها السياسية ما دامت غير قادرة على فرض حصار اقتصادي بشرعية دولية.
المراحل القادمة لن تشهد تحولات كثيرة، فالأزمات بما فيها الأزمة السورية تتم محاصرتها اقتصادياً، وفي الوقت نفسه يتم خلق صعوبات أمام قدرة البعض على التحرك في الهامش السياسي الذي فرضه واقع انقسام العالم، فالحلول لن تتشكل سريعاً عبر غطاء دولي، وهو ما يفرض حلولاً محلية وإقليمية متعددة، وهذا الاستحقاق سيبقى في المرحلة الحالية سمة ربما على السوريين مواجهته مهما تعقدت الظروف الدولية.