ثقافة وفن

الإرهابي وتاجر الحرب وجها المعاناة السورية … السينما السورية وتأليف جماعي يستفيد من النقد

| نهلة كامل

حصل فيلم «درب السما» على ثلاثة جوائز في مهرجان الإسكندرية الدولي لهذا العام إحداها أفضل سيناريو في المسابقة الدولية، حيث يذكرنا جود سعيد وهو يقدم مجموعته المشاركة في إنجاز الفيلم، بتوصية المخرج العبقري أندريه فايدا، في كتابه «الرؤية المزدوجة» وهو يقول: أقترح عليك خلال تصوير فيلم أن تقلل من الأنا وتؤكد على نحن الجماعية، حتى لو وصفته بعبارة فيلمنا سيبقى في نظر المشاهدين والنقاد فيلم المخرج: فيلمي.
وينجز جود سعيد فيلمه، بنحن الجماعية، بتوازن وتوزيع أوركسترالي متقن، ويقدم حقيقة نصنا لا نصي في سيناريو الفيلم، إنه يقدم«درب السما» سيناريو أربعة مؤلفين: الفنان الكبير أيمن زيدان، والسيناريست سماح القتال ورامي كوسا، من دون أن يفقد الفيلم خصوصية أنه سيناريو جود سعيد أيضاً، مع ملاحظة أن ورشات العمل الفني أصبحت تغزو الأعمال السينمائية والشركات الدرامية الكبرى.
وسنجد أن طاقم فيلم «درب السما» لم يثقل على كاهل جود سعيد، بل أيده على الانطلاق في متابعة شجاعة وجريئة، ورؤية بانورامية ناقدة لأحداث سوداء سيطرت على الحياة السورية، ذلك أن الكشف عن نور الطريق في هذه البيئة لم يكن عملية سهلة أو ساذجة، وأن تقدميها بشكل موضوعي احتاج- إلى دلالات سينمائية معبرة وحوامل إنسانية قادرة، وحبكة وثائقية واقعية رغم أنها مستترة خلف الزمان والمكان.

المعاناة الأولى

يخوض جود سعيد تجربة «درب السما» بكادر فني كبير، يتناسب مع تقسيم الفيلم في المكان والزمان إلى مرحلتين وبيئتين، من أجل تكامل المشهد في سيرة الحياة السورية، تجمع بينهما شخصية زياد أبو رام، وربطت المعاناة السورية في كلتا البيئتين، كما أنه يضع في كل بيئة ومرحلة شخصية مضيئة مماثلة لزياد، ففي البيئة الأولى للبلدات السورية التي يسيطر عليها الإرهابيون المسلحون، نجد صديق عمره الذي يقاسمه الحياة والتضحية أبو محمد، الذي يؤدي دوره بإنسانية عميقة الممثل القدير جرجس جبارة، وفي قرية مسقط رأسه، أي البيئة التي تعاني من تسلط تجار الحرب، وصراع عصاباتهم، ستكون مديرة المدرسة، التي جسدتها الممثلة الجميلة البارعة صفاء سلطان، وزوجة الشهيد التي تضحي أولاً بزوجها في الحرب ثم بنفسها تحت ضغوط تجار الحرب.
وحيث يجمع زياد، الذي جسده فناننا الكبير أيمن زيدان، بين بيئتين ومرحلتين متكاملتين، سنجد أن المعاناة التي يقدمها «درب السما» واقعية تشير أحداثها إلى وقائع معروفة وفئات موجودة كظواهر سلبية أو سوداء في سنوات الحرب، إن زياد الذي عاش طوال حياته في بلدة سورية، كأستاذ مدرسة يعلم أطفالاً وشباناً، ويقيم علاقات أخوية مع الجميع، لم يشفع له أنه ينتمي إلى طائفة أخرى بالنسبة للأكثرية في البلدة حين قامت الحرب، وقسمت عصابات الإرهاب والتعصب للطوائف والعلاقات الإنسانية، كي تنفذ مخطط «تطهير» تراه العيون التي أعماها حقدها الأسود وارتباطاتها الإجرامية… عندها فقدت عائلة زياد حياتها في البيئة الأولى.

إننا نرى في البيئة الأولى لـ «درب السما» نتائج الدمار الذي سببته الحرب على الأرض والعلاقات الإنسانية، ونعيش مع عائلة زياد وصديقه أبو محمد ظروفهما الجديدة بعد أن فقدت الأسرتان الأمهات، وفقد رام ابن زياد رجله، وعروة ابن صديقه بصره، لكن هذا لم يكن كافياً فقد واصلت العصابات الإرهابية إجرامها فقامت بشنق ابنة زياد وحبيبها، وهاجرت ابنته الثانية مع زوجها على ظهر طوافة ستغرق وسط البحر.
يصور جود سعيد المرحلة الأولى لـ «درب السما» في أماكن هدمتها الحرب وحاصرتها العصابات الإرهابية، ويعتمد على لقطات الكاميرا القريبة داخل المنازل المتلاصقة في البلدة، والتي كانت تعكس حميمية العلاقات في الحارة السورية وأصبحت مسرحاً مرعباً للجريمة والإرهاب والكراهية، وقد قدمت مشاهد الفيلم هذا الضيق في حركة لاهثة كأرجل هاربة من النيران، حيث تصطدم الكاميرا بجدران يقف وراءها المسلحون وأزقة يقطعها الإرهابيون، وابتكرت بوساطة الظلال وانعدام النور في تصوير بيئة ظلامية، وفي غرائبية الحواجز التي وضعها الإرهابيون أمام مدخل البلدة، والتي يجب أن يعبرها الإنسان كلها للخروج إلى طريق عام قد يؤدي إلى مجهول: النجاة أو التهلكة.. ومن هنا يخرج عروة وزوجته ابنه زياد إلى الهجرة فالموت، ويخرج زياد وعائلته الجديدة المكونة من ابنه رام، والتي انضمت إلى ابنة صديقه لجين كي تقدم شهادة البكالوريا في قرية زياد.
لكن هذا الخروج لم يكن ممكناً لولا تضحية أبو محمد ومساعدته، الذي قايض على تحرير صديقه من سجن الإرهاب بتقديم شحنة من المواد الاستهلاكية التي يحتاجا الإرهابيون.

المعاناة الثانية

يخرج زياد من بلدة يسيطر عليها الإرهاب إلى قرية مسقط رأسه ولتختلف البيئة والمعاناة والمشهد السينمائي، إنها مرحلة النقد اللاذع الثانية التي تتكامل مع الأولى، كما أنها مرحلة لاحقة بالنسبة لأفلام جود سعيد السابقة، فقد خرج أبطاله بعد فيلمه الساحر «مطر حمص» و«رجل ثلاثة أيام» إلى خلاص لم يصلوا إليه، وقد ذهب بطل «مسافرو الحرب» كي يموت في مسقط رأسه، لكن زياد يخرج في درب السما، حاملاً ابنه وابنة صديقه من أجل البقاء ومواصلة الحياة..
ويصور جود سعيد المرحلة الثانية من فيلمه في المساحات الريفية الواسعة، وفضاء الغابات البكر، كي يعبر عن أمان وحرية كان يقصدهما زياد في خروجه من معاناته في البيئة الأولى، وتقوم الطبيعة في المرحلة الثانية بتقديم نوع من الانفراج النفسي المتطلع إلى الطمأنينة، وتقدم الشمس والفضاء هنا ما يساوي الضيق في البيئة الأولى، إنما بشكل معكوس.
وها نحن في المرحلة الثانية لـ«درب السما» نجد أن المشاهد معكوسة لكن جود سعيد لا يصور بيئتين من أجل المفاضلة بينهما، بل من أجل اكتمال المشهد الذي وصفه مراد شاهين، مدير عام مؤسسة السينما، بأنه هجاء للحرب السورية، ونمط الحياة المسيطر عليها، كما نتفق معه وهو يقول إن الفيلم يوجه رسالة: «يجب أن نبقى هنا جميعاً، ونستطيع أن نتفهم أكثر، ذكاء المخرج وهو يستخدم الهامش الأعرض لحرية الجهة المنتجة من أجل تحقيق فيلم «درب السما» الذي يهجو وينتقد ويرفض الظلم وتجار الحرب بالتساوي كما يرفض الإرهاب.

إن تاجر الحرب في مسقط رأس زياد، لم يكن سوى شقيقه الذي يريد تنازلاً منه عن بيت الأسرة وأرضها، ويسجنه بعد تلفيق تهمة أنه يعاشر قاصراً، ابنة صديقه لجين، لكنه سيخرج من سجنه الثاني في مسقط رأسه، كما خرج من الأول بتضحيات ومساعدة ذوي النفوس النيرة والأفعال الرحيمة، وهم هنا مديرة المدرسة التي جسدتها الجميلة صفاء سلطان بإشراق نفسي لافت، وبتضحية زوجة الشهيد التي تقبل الزواج من تاجر الحرب، ثمناً لخروج زياد من السجن قبل أن تنتحر، حيث يشكل انتحارها أقصى حالات النقد اللاذع للبيئة الريفية الثانية.
وسينتهي الفيلم نهاية سعيدة، لكن هذه النهاية لم تكن ممكنة إلا بعد التضحيات الكبيرة التي قدمتها الشخصيات المضيئة، إنها نهاية مشروطة بالعطاء والمحبة قد لا نجدها في فيلم آخر في سنوات الحرب وسيرة أحداثها، وستسيطر أصوات الاشتباكات بين عصابات تجار الحرب على حفل زفاف زياد ومديرة المدرسة، كي تختم الكاميرا على وجه وهو يقول: عفوا.. حيث تذكرنا النهاية بفيلم يوسف شاهين عبقري السينما العربية، حيث يغني محمد منير: علي صوتك بالغنا، لسه، بالحياة في «درب السما» ممكنة.

درب السما

إن النقد اللاذع لوجهي المأساة السورية الإرهاب وتجار الحرب هو الرسالة الحقيقية للفيلم، وقد تبدو الدعوة إلى الغناء مثل الدعوة إلى الحب في أغلب أفلام المؤسسة العامة للسينما وكأنها وضعت بصيص نور في آخر نفق الحرب، ومحاولة لتقديم نهاية متفائلة، لولا أن هذه النهاية أو الانفراج كما في أفلام جود سعيد السابقة تؤشر إلى بداية «درب السما» وليس إلى نهايته، وهذا يلغي عامل النهاية السعيدة المبنية على أمل شخصي، ويضعها في سياق منطقي يشبه قول سعد الله ونوس: «نحن محكومون بالأمل».

لم يشر الفيلم بشكل مباشر إلى معنى «درب السما» لكنه نجح في تقديم حالة سينمائية تؤكد وجوده، واتجه إلى تمهيد هذا الدرب إنسانياً، قبل أن يكون ذلك سياسياً بتوجيه الاهتمام إلى شخصيات شفافة وخيرة وجميلة تستطيع أن تقول: غنوا بدل اقتتلوا، إنهم العامل الموازي الذي يستطيع إقناع الإنسان السوري بالبقاء مع دفع تكلفة التضحيات الكبرى.
وقد استخدم جود سعيد لغة غنية، وتقنيات متوزعة في جوانب الفيلم للإضاءة على «درب السما» وسط العتمة وتحت نيران الحب، فأوسع كادر المشهد السينمائي لأكبر عدد من الوجوه الجميلة، وحبكة الفيلم لتقديم حكايات العشاق من كل الأعمار من الشبان والمخضرمين مثل زياد، ودعم تلك المعاني بمشاهد إنسانية مضيئة، ومواقف مبتكرة، كأن يعير ابن زياد رجله الاصطناعية إلى صديقه، وتضحيات صارخة مثل قبول زوجة الشهيد بالزواج من تاجر الحرب ثم انتحارها، بهذا الأسلوب لم تأت الدعوة إلى الغناء من فراغ، ولا الأمل من تمن فقط، وذلك بعد أن رسم الانفراجات في النفس البشرية وفي تأمل الحياة السورية كاملة حيث يجلس العاشقان، في مشهد لن ينسى، تحت شجرة مطلة على آفاق البيئة السورية كاملة، وكأنها توحد الأمل والحب معاً.

ولابد من الإشادة بنتائج هذه الحالة الجماعية لفيلم جود سعيد «درب السما» الذي يصبح «فيلماً»، والتي استطاعت تقديم مساهمات لافتة لفنانين متميزين، فها هو النجم محمد الأحمد يكون مؤثراً وهو يقدم دوراً صغيراً، وها هو فناننا الكبير أيمن زيدان يسهم في أكثر من مجال، ترجمة لارتباطه بجمهور السينما السورية فينال جائرة أفضل ممثل.. حالة سينمائية جماعية استحق جود سعيد في تأليفها وإخراجها جائزة أفضل فيلم.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن