«الخَطُّ يَبْقَى زَمَاناً بَعْدَ كَاتِبِهِ/ وَكَاتِبُ الخَطِّ تَحْتَ الأرض مَدْفُونا».
كانت جدتي الأمية تكرر بيت الشعر هذا على مسامعي في كل مناسبة تذكر فيها الكتابة والمكاتيب، بحيث أستطيع القول إنه أول بيت شعر حفظته في حياتي، وخلال خدمتي المديدة على جبهة الحروف، بحثت غير مرة عن صاحب هذا البيت فلم أعرف له اسماً حتى الآن.
صحيح أن نظرتي للخط والكتابة قد تغيرت كثيراً بعد أن خضت غمارهما طوال نصف قرن ونيف، إلا أن حقيقة «بقاء الخط زماناً بعد كاتبه» لا تزال تحتل مكانة مركزية في تفكيري، وربما كانت هذه الحقيقة هي سر تهيبي الدائم للكتابة، ونظرتي إليها كما لو أنها طقس مقدس أقرب إلى العبادة!
والحق أنني أشعر بسعادة غامرة عندما يبلغني أحدهم أنه يحتفظ بكتاباتي ويرجع إليها بين وقت وآخر. وعندما جاء الصديق يسار شعبان إلى محاضرة لي في المركز الثقافي العربي في بانياس وهو يحمل عدة دفاتر ضخمة ألصق فيها المئات من مقالاتي كدت أجهش بالبكاء.
نعم، أستطيع القول شكراً للحياة لأنها أتاحت لي فرصاً عديدة لرؤية كلماتي وقد ذابت في وجدان بعض القراء وتحولت إلى جزء أصيل من نظرتهم للعالم.
عندما كرمني الصديق سامي نصير صاحب ومدرب مدرسة «نرقص لنحيا» قبل سنوات، قلت: أعترف أن الكتابة شجرة مرَّة، لكنها تعطي ثماراً حلوة، وأحلى ثمار شجرة الكتابة المرة هو تلك الصداقات الروحية الحلوة، التي سرعان ما تترسخ، وتتحول إلى صداقات وجدانية أصيلة.
إلا أن أجمل هدية يمكن أن أتلقاها هي أن تسهم كلماتي في رفع الحيف عن إنسان مظلوم.
صحيح أن بعض المسؤولين يتلقون كلماتي بأذن من طين وأخرى من عجين، لكن بعضاً آخر منهم يتلقونها بأذن ثالثة تصب مباشرة في الوجدان. وأنا أتوجه لهؤلاء، لمناسبة أعياد الميلاد ورأس السنة، أن يعايدوني برفع الظلم عن بعض الشباب السوريين الوطنيين الموجودين في الخارج، الذين يبلغ عددهم حسب قول أحد الأصدقاء، نحو نصف مليون.
وبغض النظر عن العدد، أستطيع القول إن مطلب هؤلاء محق وآمل أن يلبى.
القصة تتعلق بالشباب المغتربين المطلوبين بجرم التخلف عن الاحتياط. يقول هؤلاء، كما جاء في رسالة أحدهم، أن وضعهم التجنيدي كان عادياً، وكانوا يزورون البلد بصفة دائمة حتى نهاية 2016، حيث تم طلب جميع من هم احتياط، للالتحاق، أو تبرير سبب عدم الالتحاق. ومن الأسباب المبررة المأخوذ بها، أن يكون المطلوب مقيماً في دولة أخرى، وعليه أن يثبت ذلك عن طريق سند إقامة صادر من سفارة الجمهورية العربية السورية في بلد الإقامة.
المشكلة هي أن أغلب سفاراتنا أغلقت بسبب الحصار على سورية، وبعد عدة طلبات قامت وزارة الخارجية بتكليف سفاراتنا الموجودة في بعض الدول بشؤون المغتربين في الدول التي لا يوجد فيها تمثيل دبلوماسي. إلا أن هذا لم يحل المشكلة، فقد كتب لي صديق مقيم في المملكة المغربية، يقول إن وزارة الخارجية قد كلفت سفارتنا في الجزائر بشؤون المقيمين في المغرب، والسفارة السورية في الجزائر تشترط حضور المكلف شخصياً، لكن السفارة الجزائرية في المغرب لا تمنح فيزا للسوريين! «يعني مقسوم لا تأكل وصحيح لا تقسم».
وهذا الوضع الغريب يحرم ذلك الصديق من دخول البلد منذ أربع سنوات، لذا يضطر أن يلتقي بعائلته في لبنان، وهو يتساءل: «أليست سورية أحق بآلاف الدولارات التي أصرفها في لبنان؟» صحيح أنني لست خبيراً في هذه الشؤون إلا أنني أعلم بوجود شيء يدعى «إذن زيارة الوطن للمتخلفين عن الخدمة الإلزامية». فلماذا لا يعطى للمغتربين المتخلفين عن الخدمة الاحتياطية شيء كهذا؟ يقول الصديق المغترب في المغرب: «بلدنا أولى بنا وبكفاءتنا وبعملتنا الصعبة التي نصرفها في البلدان المجاورة» ويختم الصديق المغترب رسالته بقوله: «… وتتألم عندما تعرف أنك أنت الوطني المحب لبلدك ممنوع من زيارته، وإحداهن رقصت وهللت على دماء أهالينا في الجيش، وشتمت الوطن… تستقبل بالحفاوة… فهل مطلوب منا المعارضة ليقبلوا ضَمَّنا لحضنِ الوطن؟»
أرجو وآمل أن يقع هذا الطلب المحق على أذنٍ ثالثة لرفعِ الظلم عن هؤلاء الشباب الوطنيين.