ثقافة وفن

بين المتطلبات الوجدانية والروحية وبين مشاغل الحياة…. كيف يعيش الفنان التشكيلي؟

| جُمان بركات

يحضرنا السؤال عن مصدر عيش المبدع وعن كيفية تأمين قوت يومه ومواجهة متطلبات الحياة الاقتصادية، وهل الكتابة أو الرسم يكفيان لتلبية تلك الاحتياجات؟ ربما يجد البعض جواباً مغايراً لنعم أو لا بالقول إن الإبداع ينفصل عن متطلباته الوظيفية، وخاصة فيما يتعلق بالمردود المادي باعتباره خلاص النفس الإنسانية وتحقيق ذاتها المبدعة قبل ذاتها المتطلبة لضرورة العيش.

لعل البعض من الفنانين وجد حلاً لهذه المعضلة بالتفريق بين مشاغل الأيام وهمومها وبين المتطلبات الوجدانية والروحية، بحيث يجد عملاً قريباً من عوالمه يسد حاجته بشكل أولي ويمكنه من التفرغ لبحثه الذاتي الذي ينجح البعض في تحويله إلى مشروع حياة، ومصدر دخل يؤمن له حاجاته؛ إلا أن هذه المعادلة لن تتحقق بالتمني أو بالصدفة بل لابد من شروط يؤمنها المجتمع وينتبه إلى ذلك المنتج الذي يصبح ضرورة روحية وثقافية له مما يقتضي تعزيز هذا السؤال عن دور الفن والقيم الجمالية وعن ضرورة حماية المبدعين والمساهمة في تحقيق ضرورات عيشهم؟ في هذا الاستطلاع نسأل بعض المشتغلين في اللوحة الذين حققوا حضوراً فنياً واستطاعوا تأمين بعض ضرورات عيشهم من خلال لوحتهم.

ثقافة مجتمع

«الله يعين الفنان التشكيلي» بهذه الجملة بدأ رئيس اتحاد الفنانين التشكيليين د. إحسان العر عندما سُئل عن حياة الفنان التشكيلي في سورية، حيث قال: قلة هم الذين يعيشون من بيع لوحاتهم في هذا الزمن، في حين يلجأ الآخرون إلى بعض المهن الأخرى ليحصّل قوت يومه ليعيش وفي الوقت نفسه لا يستطيع ترك فنه، فيضطر إلى دفع ثمن المواد التي يستخدمها في الرسم والتلوين ليقدم لوحة فنية تعبر عنه، وفي الحقيقة الفنان التشكيلي هو أكثر إنسان مثقف ولكنه مظلوم مادياً، ونحن في اتحاد الفنانين التشكيليين نساعد أي فنان من خلال تقديمه إلى السوق والتعريف بأعماله وفنه، وصالاتنا مجانية ومفتوحة أمام أي فنان.
وعن سبب معاناة الفنان أضاف رئيس الاتحاد: ربما يعود السبب إلى ثقافة المجتمع، فمثلاً عند زيارة شخص لمريض يأخذ معه علبة من الحلويات الفاخرة أو أي شيء يؤكل، ونادراً ما يفكر في أخذ لوحة فنية، والمجتمع الذي يتكلم بالفن التشكيلي والموسيقا هو مجتمع راقٍ، فنرى الأدباء والمثقفين والشعراء والفنانين التشكيليين يعيشون برفاهية لأن فنهم يحظى بالتقدير في مجتمعاتهم، وفي سورية عندما تصبح العادة بتبادل اللوحات الفنية كنوع من الهدية يمكن القول إننا شعب على قدر عالٍ من الثقافة ونحترم الفن التشكيلي ومنتج هذا الفن المبدع.
وعن دور وزارة الثقافة قال د. إحسان العر: وزارة الثقافة لها باع طويل مع اتحاد الفنانين التشكيليين وهي الداعمة والركيزة الأساسية لهذا الموضوع، في النهاية يمكن القول إنها حلقة متكاملة تبدأ من وزارة الثقافة واتحاد الفنانين التشكيليين والفنان التشكيلي وثقافة المجتمع والبيئة والمدرسة، وليس اللوم فقط على وزارة الثقافة أو اتحاد أو فنان، الكل يكمل بعضه، وكما قلت في البداية هي حلقة متكاملة.

خسارة صعبة

يرى د. سائد سلوم عضو مؤسس في جمعية الباحثين التشكيليين السوريين أنه في زمن الحرب والأزمة الاقتصادية يصعب على الفنان بيع لوحته، حيث قال:

لا يستطيع الفنان التشكيلي التفكير أنه يستطيع العيش من سعر اللوحات التي يعمل بها، وغالباً ما نجده موظفاً أو يعمل أعمالاً حرة ليستطيع العيش، ويمكن أن يبيع على مقدار معين، ولكن نادراً ما نجد فناناً متفرغاً تفرغاً كاملاً في مرسمه، ويطمح للعيش فقط من مبيع اللوحات، والأزمة لم تكن على الفنانين التشكيليين فقط وإنما على كل شخص في سورية، فالموظف لم يعد يكفيه الراتب وأصبح العائد الاقتصادي أقل ولكن مع تعافي البلد يبدو أن الوضع بدأ يتغير، إلا أن الفنان يبقى متأثراً بهذه الحال، ولا يمكن وضع الفن جانباً فهو يبقى في القلب والروح وفي المدرسة الفكرية التي ينشرها والطريقة الإبداعية التي يتبعها، وأنا واحد من الفنانين عندما أرسم لوحة فنية أستصعب خسارتها في البيع، فاللوحة لا يساوي سعرها حفنة من الليرات أو الدولارات، وفي هذه الأيام والظروف يعدّ الفنان إلى العشرة قبل بيع لوحاته، وأنا شخصياً أقوم بتصويرها وتوثيقها والكثير من الفنانين يفعلون مثلي ليبقى شيء من أثره بعد بيعها.

ثقافة بصرية

ويرى الفنان محمود جوابرة أن الفن يقترن بالحياة والبيئة، والفنان الحقيقي هو الذي لا يخرج عن بيئته ويحاول توثيق إرثه الثقافي والحضاري إما من خلال حالات إنسانية يمر بها أو من خلال التأكيد على التراث بكل ما حمل من عادات وتقاليد، أما الفنان التشكيلي إسماعيل نصرة يرى أن المشكلة تكمن في تسويق أعمال الفنان التشكيلي حيث قال: أغلب الفنانين الذين يعملون ويقدمون منتجاً إبداعياً جيداً يقدمون لوحاتهم من خلال المعارض الخاصة بهم، ويأخذ المعرض حقه من الحضور والإعلام وهناك بعض الأشياء الإيجابية ورصيد شعبي، ولكن يبقى التسويق ضعيفاً والمشكلة غياب تام لمؤسسات الدولة، لذلك يلجأ بعض الفنانين إلى الاعتماد على علاقاته الخاصة -وليس كلهم- وهناك فنانون يقومون بتسويق أعمالهم الفنية، وأنا أرى أن الموضوع بحاجة إلى رعاية من جهة الدولة حيث تقوم بتوظيف المؤسسات في هذا الاتجاه لأن هناك الكثير من الدول سبقتنا في هذا المجال، وهناك تجربة عربية في تونس مثلاً فرضوا على جميع المؤسسات والشركات الكبيرة الخاصة اقتناء أعمال الفنانين وتعليقها ضمن المؤسسات وبأسعار جيدة، وهذه الحركة عملت حراكاً في الفن وشجعت الفنان للعمل أكثر، وأنا أتمنى أن تقوم الجهات المعنية بذات الشيء عندنا، وهذه الخطوة لا تفيد الفنان مادياً فقط وإنما تقدم ذائقة فنية على مستوى عالٍ، ويعتاد الناس غير المهتمين بالفن على رؤية اللوحات في كل المؤسسات ويصبح لديهم ثقافة بصرية تشكيلية.

كسر السعر

«كيف يعيش الفنان التشكيلي»؟ رددت الفنانة ربا مروان قرقوط الجملة عدة مرات، وأجابت بالقول:
معيشة الفنان السوري فيها صعوبة فائقة من حيث المبلغ الزهيد، فهو يحصل على راتب قليل جداً في الوقت الذي فيه مصروفه كبير بين خشب من نوعية ممتازة والعصارات والريش وكلها مكلفة لذلك يضطر إما لتدريب طلاب وإما أن يعمل عملاً ثانياً وثالثاً، ولكن تبقى الصدمة الكبيرة عند إقامة الفنان لمعرض وبعد أن يستنزف كل طاقته فيكون مصير اللوحات إما البيع بأسعار زهيدة أو البقاء في مستودع الفنان وأحياناً كثيرة يمكن تكسير سعر اللوحة، ونحن نسعى دائماً لأن يكون للوحة حضورها واحترامها، فهي في النهاية ليست عملية شراء خضراوات أو فاكهة لنقوم بعملية تكسير السعر وإنما يجب أن يكون لها حضور بدعم من الاتحاد الفنانين التشكيليين ووزارة الثقافة لمساعدة الفنان مثل تقديم بعض المخصصات له.

مشروع فردي

من سيحمي الفنان التشكيلي؟ هي قضية ليست مستحيلة الحل وإنما تتطلب بعض الجهود من الجهات المعنية، وبدوره قال الفنان موفق مخول:

الوضع الاجتماعي للفنان التشكيلي سيئ في البلد، ومن المفروض أن يكون هناك رعاية من الدولة أكثر لأن أغلب الدول ترعى فنانيها، ووزارة الثقافة تقدم جهوداً مبذولة -لا يوجد شك- ولكن من المفروض أن يكون هناك أكثر من جهة تقدم الدعم، مثل الجامعات الخاصة والبنوك الخاصة وأغلب معارض الدول يتبناها القطاع الخاص، ومشكلة القطاع الخاص لدينا أنه يملك المال ولكنه غير مثقف، فهو لا يتبنى الفن التشكيلي والمعارض ولا يضع اللوحات ضمن الأماكن التي لديه، ويجب على البنوك أن تقوم بمسابقة واقتناء أعمال للفنانين، وبعدها بالتأكيد سنصل إلى حالة انتعاش في مجال الفن التشكيلي وليس العبء على الدولة فقط ونحن تنقصنا ثقافة المجتمع والناس التي تملك المال، التي باستطاعتها رفع مستوى الفن التشكيلي والثقافة، ولكن وضع الفن التشكيلي سيئ مادياً، ولكنه يستمر بالرسم بروحه وحياته ولا يستطيع الاستغناء عنه، وليس لدينا حل آخر في حياتنا وقد اخترنا طريقنا منذ البداية، ولكن لا أنصح به أحداً ولا نستطيع الرجعة وأنا أوجه دعوة إلى الحكومة ووزارة المالية والتعليم العالي والجهات التي لديها تبعية في الدولة على اقتناء اللوحات بذات الطريقة التي تفرض من خلالها الضرائب وتراعيها بأشياء أخرى، مثل أوروبا الذي يشتري لوحة تشكيلية يعفى من ضريبتها ونحن ليس لدينا مشروع ثقافي وإنما مشروع فردي.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن