قضايا وآراء

مراجعة في الذكرىالـ28 للسقوط

| عبد المنعم علي عيسى

في نبوءة مدهشة قدمها رئيس تحرير «الإيكونوميست» نورمان ماكراي في ملف بعنوان «إرث ريغان» نشر في 27 كانون الأول من العام 1980 جاء بالحرف الواحد: «لو أن التطورات استمرت على زخمها الاجتماعي والاقتصادي الراهن مما يجب أن يرصد من قبل أي جهاز يملك ذكاءً كافياً لكي يصاب بالفزع، فإن مجمل النظام السوفييتي المتعفن يمكن أن يواجه ثورة على طراز 1789 (يقصد الثورة الفرنسية) قبل عام 1989».
لا يتأتى مصدر الاندهاش في نبوءة ماكراي من أن الأخير استطاع أن يحدد موعداً افتراضياً دقيقاً لحدوث الانفجار من الداخل السوفييتي، كما لا يتأتى أيضاً من أن ذلك الانفجار كان تماما على الصورة التي حددها والتي كانت أقرب في الشكل إلى ما جرى في فرنسا العام 1789، وإنما يتأتى، ذلك الاندهاش، من أن الاتحاد السوفييتي كان يبدي وقت النبوءة مظهرا على درجة عالية من التماسك الاقتصادي أتاح بالضرورة إنتاج سياسات خارجية بدت قوية أو هي الأخرى يمكن توصيفها بأنها كانت على درجة عالية من التماسك، في الوقت الذي كانت تقارير مراكز الأبحاث والدراسات الإستراتيجية الغربية ترصد حالاً للمعسكر الغربي هو في مجمله يشير إلى أن هذا الأخير كان يمر، في تلك اللحظات، بأسوأ حالاته التي مر بها منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية العام 1945.
يؤسس السياق السابق لسؤال كبير هو: لماذا صدقت نبوءة ماكراي؟ ولماذا كان ذلك السقوط الذي لا يمكن تشبيهه اليوم إلا بالسقوط الحر الذي ما من عامل حاكم له خارج عامل الجاذبية فحسب؟ ثم أي مناظير كان يمتلكها الرجل وهي فاقت كل نظيراتها في مؤسسات وأجهزة عملاقة لإمبراطورية «الاشتراكية» التي مثلت التجربة الأهم مما ابتناه الإنسان في تاريخيه القديم والحديث؟
قد تحتاج إجابة شافية عن هذه الأسئلة الأخيرة عشرات الآلاف من الصفحات، والمؤكد هو أن جزءاً كبيراً منها قد لقي حظوظاً وافرة في الخروج إلى العلن حتى الآن، لكن المؤكد هو أن السجل الجامع لها لا يزال يبدي المزيد من الرغبة في أن يضم المزيد.
منذ العام 1903 خرج إلى العلن خلاف منهجي ذو جذور عميقة بين تيارين حملا فيما بعد اسمي «البلاشفة» و«المناشفة»، وكلاهما كان يحمل رؤية متناقضة مع الآخر حول ضرورة الفصل، أو التلازم، بين الثورتين الديمقراطية والاشتراكية، ففي الوقت الذي ارتأى فيه فلاديمير لينين، زعيم البلاشفة، أن الفصل بين الثورتين هو الوصفة الناجعة في الحالة الروسية، كان ليون تروتسكي، زعيم المناشفة فيما بعد، يرى أن التداخل بين الثورتين هو الحالة الوحيدة التي يمكن أن تفضي إلى «الثورة الدائمة» الشرط اللازم والكافي لديمومة دولة «العمال»، مع تسجيل نقطة مهمة هنا هي أن لينين مال بعد انتصار الثورة في العام 1917 إلى رؤية تروتسكي من دون أن يلقى ميله ذاك قبول الأغلبية في أوساط تيار البلاشفة مما أدى إلى حتمية الصراع ثم «تخندقه» حتى وصل إلى وجوب اختفاء هذا الأخير، أي تروتسكي، بالمعنى الجسدي للكلمة الأمر الذي انتهى إلى اغتياله في العام 1927، وما نريد قوله هنا هو أن ظاهرة السقوط الحاصل في العام 1991 تفرض إعادة النظر فيمن كان يمتلك النظرة المنهجية الأصح البلاشفة أم المناشفة؟
نجح الشيوعيون السوفيت في بناء الرأسمالية بسرعة وكفاءة أكبر من تلك التي أظهرها الرأسماليون في الغرب، وهو الأمر الذي يبرر حالة النهوض السوفيتية خلال عقود الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، إلا أن تلك البنية التحتية التي أظهرت تفوقا كانت تعاني، أو هي لم تحقق نجاحا، في خلق حالة من ديناميكية السلطة تتيح ترجمة ذلك التفوق، وهو ما تمظهر في حالة الانقطاع ما بين الأجيال التي تعاقبت على السلطة، ففي البداية كان هناك جيل المفكرين مثل لينين وتروتسكي، ثم جاء جيل العمال والفلاحين في عهدي ستالين وخروتشوف، ثم كان جيل التكنوقراط والفنيين الذي مثله كل من بريجينيف وكوسيغين وبودغورني، وما يمكن لحظه في هذه المتوالية هو أن حالات انتقال السلطة كانت تتم عبر فعلين اثنين لا ثالث لهما هما الموت أو المؤامرة، الأمر الذي أوحى بأن ثمة عطباً أو عائقاً يحول بين ضخ الدم من القلب نحو الرأس ما أصاب الجسد بالجمود أولا ثم أدى إلى حال من الشلل واضحة.
عندما وصل ميخائيل غورباتشوف إلى السلطة في العام 1985 كان هناك تحديان كبيران وهما لا ينفصلان في عملية إيجاد حلول لهما، الأول هو التحدي الخارجي الذي فرضته مبادرة الدفاع الإستراتيجية «حرب النجوم» التي أطلقها الرئيس الأميركي رونالد ريغان آذار 1983 التي وضعت موسكو أمام خيارين إما الدخول في سباق تسلح قد لا يكون الاقتصاد السوفييتي قادراً على احتماله، وإما القبول بالنزول من مرتبة القطب العالمي كند للولايات المتحدة، وثانيهما التحدي الداخلي بشقوقه الثلاثة الاقتصادي والسياسي والإيديولوجي.
كان أمام غورباتشوف في تلك اللحظة خياران للخروج من المأزق أولهما الانفتاح على الصين لكسر التحدي الذي فرضته سياسات ريغان الهجومية، وهو مسار كان يفترض ضمناً القبول بتوحيد شطري ألمانيا، حيث الإشارات التي كانت تطلقها برلين آنذاك تشير إلى قبول الأخيرة بخروجها من الحلف الأطلسي إذا ما أبدت موسكو قبولاً بتوحيد شطري الأمة الألمانية، وهو أمر كان يمكن أن يؤدي إلى دق إسفين بين أوروبا والولايات المتحدة نظراً للثقل الذي تمثله ألمانيا في القارة العجوز، وثانيهما العودة إلى الداخل لفرض توازنات جديدة بعد اختلالها الذي جعل منها في غير مصلحة السلطة آنذاك، وهو مسار كان يفترض العودة إلى سياسات ستالين التي اتبعها في الداخل، الأمر الذي كان يفترض ممارسة الضغوط، وصولا إلى استخدام العنف بالدرجة القصوى، على القوى الاقتصادية والاجتماعية بغرض وضعها في قوالب تسمح باتباع سياسات خارجية تتناسب مع الدخول في سباق تسلح جديد يحول دون خسارة موقع القطب العالمي الآخر.
لم يعمد غورباتشوف إلى اتباع أي من الخيارين السابقين، لنراه يذهب نحو إطلاق «البروستوريكا» التي عنت «الإصلاح وإعادة البناء» بعد أكثر من شهر على وصوله إلى السلطة.
في الواقع كانت تلك النظرية تمثل خطة طموحاً وصحيحة للانتقال من رأسمالية الدولة التي كان يعيشها الاتحاد السوفييتي إلى الاشتراكية، وخطؤها القاتل الذي أدى إلى انهيارها كان يكمن في التوقيت الذي جاءت فيه، فطرح عملية الإصلاح يمكن أن يكون ناجحاً فقط إذا ما كان التوازن الداخلي يميل إلى مصلحة قوى السلطة في مواجهة القوى الراغبة في التغيير، فكيف الأمر إذا ما كانت البلاد تتعرض لنزعة هجومية عارمة مثلتها سياسات ريغان الخارجية، وفي سياسات الدول العظمى يبرز بدرجة كبيرة دور لآلية التأثير المتبادل بين السياستين الداخلية والخارجية، فتصبح الفواصل فيما بينهما شبه غائبة أو هي غير منظورة، وفي هذا السياق جاءت البرويستوريكا بصورة كانت أقرب إلى قرار سوفييتي بقبول واقع الهزيمة قبل بدء المعركة، أو هي فرضت حالة استعداد خضع من خلالها الاتحاد السوفييتي لإرادة القوة العظمى الثانية وهو ما أدخل هذا الأخير في وهم كان أشبه بالركض وراء السراب، أو هو كان هدما بمعول الإصلاح لم يثمر إلا في السير نحو السقوط.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن