في ماضي الزمان، كان يوضب حقيبته الجلدية، يمسح نظارته، متفقداً دفتر الملاحظات، وأقلام الرصاص الخاصة بالتدوين، وهو يسلك طريقه نحو المكتبة.
دار الكتب، الجليلة، تفتح أبوابها منذ الصباح وحتى المساء، وهو سيأخذ كل وقته هناك.
سيبدأ بالبحث بين السجلات عن عناوين محددة، ومواضيع معينة، ومن ثم سيسجل طلباته لدى الموظفة في صدر القاعة، منتظراً توصيلها.
بعدها سيجلس لساعات مقارناً بين النصوص، مقلباً الصفحات، مدوناً الملاحظات، مستخلصاً النتائج. سيدون أسماء أشخاص من المتخصصين، أو المطلعين، ليتصل بهم لاحقاً، كي يغني موضوعه، وربما يقوده النقاش معهم لأبعاد جديدة.
لكن في رحلته اليومية هذه، تتراوح مشاعره الشخصية، بين الفضول، والإثارة الفكرية والوجدانية، بالوصول لذروة استنتاج، أو فتح باب علم موصد.
وفي البيت، حتى لو لم يكن هنالك من سيعاين إنجازه اليومي المتواضع، أو حتى يقدر مشاعره تجاه جلالة البحث في طرق المعرفة، فهو نفسه مقتنع بما يقوم به، ويشعر بمتعة صعود عتبة جديدة من النضج والصفاء.
أما في حاضر الزمان، فمن دون مغادرتك لبيتك، تفتح منافذ المعرفة بأشكالها بكبسة زر، وتحريك مؤشر، وفي كثير من الأوقات، تجدك المعلومة قبل أن تهم بالبحث عنها، بسبب وسائل الذكاء الاصطناعي، والتجسس الخفي لأجهزة البيت الإلكترونية الكثيرة.
أما فارق اليوم والأمس حسياً فهو بذات الضخامة.
على مستوى المشاعر، تبقى تلك المداعبة المتبادلة بين المعرفة والفضول، في إطار المكتبة الضيق، وبين الباحث ومراجعه، بينه وبين دفاتر ملاحظاته، وفي الدائرة القصوى الأوسع، مع قلة قليلة من الزملاء، حتى تصل لغايتها النهائية، فتنشر للعموم.
لكن في يومنا هذا، عليك أن تعبر بين مختلف صنوف التعليقات والآراء والتنظير ونقده، وأنت
ما زلت تطالع العناوين، فكيف إن تعمقت وذهبت باتجاه التفاصيل.
ورغم أن هذا جزء من عمل الباحث، في جانب منه، إلا أنه يصبح مقيتاً ومحبطاً، حين يترافق مع استعراض الكثيرين، لأقذر مشاعرهم تجاه غيره، والتي تتراوح بين العنصرية والطبقية والشماتة بالموت والعذاب، والتحقير والتطييف (من طائفية) وصولا للتكفير ووضع الحد بالقتل.
وربما تكون الأخيرة أكثرها صدقاً ومباشرة، فما قبلها، يهدف للنهاية ذاتها، ولكن بعد تغميسها بكل صنوف التحقير والإذلال، وما يشبهها من أدوات.
نقول هذا، ليس ونحن نحاول أن نفهم ما الذي يعنيه قانون «قيصر» للعقوبات الأميركية على شعبنا قبل حكومتنا، على المدى الطويل، فقط، بل ما يذهب إليه لبنان من فوضى غامضة، وما هو عليه العراق من اهتزاز فوق فوهة بركان، وكل شرقنا، ومع التوقف في محطات كثيرة سبقت هذه الأحداث، منذ تسع سنوات وحتى الآن، لم تخل فيها ذرواتها، من استعراضيّين للكراهية، والحقد، ونزعات الإبادة، وكلها في إطار عباءة من «وطنية» ما، أو «إيمان» ما، أو «قناعة شخصية» ما.
كل هذا وذاك في سياق من التعميم، لا يميز بين فرد أو طبقة، بين فقير أو غني، بين مقهور وقاهر، بل يضع الجميع في سلة واحدة، طالما سكنوا ضفة من الضفاف، أو اختاروا سقفاً من السقوف، أو حتى سلكوا معبر نجاة إجبارياً لا ثاني له.
وتحتار في وصف كل هذا بدقة. هل هو شعور ما بالتفوق، أم ببساطة، احتقار خفي للذات لا يتجلى عملياً إلا بتضخيمها وقذف غيرها بأقذع الصفات الدونية؟