قضايا وآراء

تعميد «سوتشي» بالنار

| عبد المنعم علي عيسى

مضى أكثر قليلا من خمسة عشر شهراً على توقيع اتفاق سوتشي التركي الروسي الخاص بإدلب، وفي غضونها كانت هناك حال من النوسان التركي المتأرجح ما بين الوعود بالتطبيق «الذي يحتاج لوقت» وفقاً لتوصيفات العديد من المسؤولين الأتراك التي أطلقوها على امتداد تلك المراحل، ويستوي في ذلك إطلاقها للإعلام أو في ردهات الغرف المغلقة أيضا، وبين محاولات الهروب من تلك الوعود عبر تسويق رهاب «الأزمة الإنسانية» التي يمكن أن تخلفها العمليات العسكرية اللازمة بالضرورة كفعل لا غنى عنه لتطبيق الاتفاق بعدما تعثرت كل الحلول البديلة، وما بينهما، أي ما بين الوعود والهروب منها، كانت أنقرة تطرح المقايضات من شتى الأنواع والأثمان بفعل مؤثرات عدة من نوع الشعور التركي بعدم القدرة على حمل «كل البطيخات» في يد واحدة، الأمر الذي كان يدفع بالنظام التركي للجوء إلى «الميزان» لتحديد أي من هذي هو الأثمن وفق معايير هذا الأخير.
في المرحلة الممتدة ما بين الإعلان عن اتفاق سوتشي في أيلول من العام 2018 واليوم، تلونت العلاقة التركية الروسية بالكثير من الصباغ في ملفات عدة، لكن الصباغ القاتم تحديداً كان هو الناظم لتلك العلاقة في الملف الخاص بإدلب الذي كان يشهد توترات ظاهرة للعيان، وإن كانت خواتيمها دائماً تمضي نحو وعاء المصالح الكبرى الذي كان قادراً دوماً على جب تلك التوترات أو ضمان إبقائها تحت الوسادة لتشرق من بعدها صباحات تصالحية تؤدي إلى مزيد من التعقيدات في مشهد الشمال السوري، والجدير بالذكر هنا هو أن تلك التعقيدات كانت قد أدت بمرور الوقت إلى اجتزاء الانجاز الإستراتيجي الذي تحقق بعودة حلب إلى السيادة السورية أواخر العام 2016.
شهد ملف إدلب أعلى درجات الحرارة التي سجلها ميزانه الحراري منذ خروج المدينة عن سيطرة الجيش السوري أواخر العام 2015 في غضون الأشهر الثلاثة الماضية، والمؤكد أن تلك السخونة كانت لها أسباب أو موجباتها العديدة، لكن المؤكد أيضاً أن من بينها تلك التطورات التي كان يشهدها ملف شرق الفرات والتي كانت تبدي هي الأخرى وكأن هذا الأخير ماض نحو سخونة لا تقل في درجات حرارتها عن نظيرتها في الشمال السوري، والراجح هو أن ذلك الملف، أي ملف إدلب، سيشهد في أسابيعه المقبلة درجات من السخونة أعلى من تلك التي شهدها حتى الآن، ولربما يكفي للدلالة على ذلك مؤشران اثنان أولهما تصريح وزير الخارجية والمغتربين وليد المعلم الذي نقلته عنه قناة «روسيا اليوم» في 24 من كانون الأول الجاري والذي قال فيه: إن «اتفاق سوتشي بين روسيا وتركيا قد أخفق لأن أنقرة لم تف بالتزاماتها، وأن الخيار في إدلب بات خياراً عسكرياً بحتاً»، وثانيهما هو طبيعة الرد الروسي على النداءات التركية بوجوب تطبيق فوري لإطلاق النار، والملاحظ فيه، أي في الرد الروسي، أنه جاء بارداً على صيغة أن موسكو ستعمل كل ما بوسعها لتحقيق وقف فوري لإطلاق النار في إدلب ومحيطها، والمؤكد هو أن أنقرة قد التقطت الإشارة كما ينبغي لها التقاطها الأمر الذي يؤكده تمديد الوفد التركي لبقائه في موسكو لثلاثة أيام بعد أن وصلها والجيش السوري على مسافة أقل من عشرة كيلومترات عن معرة النعمان، الأمر الذي عنى أن هجوم الجيش قد بدأ ليستمر وهو لن يتوقف قبيل السيطرة على الطريق الدولي المعروف باسم «أم 5» والذي تشكل معرة النعمان قفزته الثانية بعد خان شيخون، فيما الثالثة ستكون في سراقب التي ستعني السيطرة عليها تأميناً تاماً للطريق وبشكل نهائي، وهذا المسار برمته يمثل أبرز بنود الاتفاق المعلن عنه في سوتشي سابق الذكر، أما خطواته الميدانية فهي تعني بشكل مؤكد تطبيقاً لذلك الاتفاق بالنار بعد أن تعذر تطبيقه برفع أغصان الزيتون، المؤكد وفق المعطيات الراهنة هو أن الطريق لذلك المسار يبدو ممهداً لوصوله إلى غاياته المرجوة منه انطلاقاً من مؤشرات عديدة أبرزها هو أن الفصائل المسلحة في إدلب لن تستطيع الصمود طويلاً ما لم تتلق دعماً عسكرياً ولوجستياً مضاعفاً الأمر الذي يبدو متعذراً الآن، بل على العكس تبدو أنقرة، وفق احتياجات المرحلة الراهنة، وكأنها تقوم بعملية عكسية لما قامت به قبل ثماني سنوات عندما كانت تعمل على استقدام المسلحين من تونس وليبيا ودول أخرى إلى سورية، فالقطار اليوم تبدو محطة انطلاقه من إدلب السورية باتجاه ليبيا ولربما مروراً بتونس وفق ما أشارت إليه زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى تونس في 25 من الشهر الجاري، فيما تؤكد تقارير، من بينها تأكيدات للمرصد السوري لحقوق الإنسان المعارض، أن أنقرة أقامت في عفرين وبلدات أخرى مراكز لنقل مقاتلين من إدلب إلى ليبيا بدعم وتمويل قطريين.
كل ما تسعى إليه أنقرة الآن، أو بمعنى أدق كل ما تستطيع فعله، هو بذل أقصى الجهود السياسية لتلافي سقوط إدلب أو عودتها للسيادة السورية، وهو فعل سيكون على قائمة مطالب أردوغان عندما سيلتقي بنظيره الروسي في اسطنبول في 8 من الشهر المقبل، وهي في سعيها ذاك لا تبدي ممانعة لتطبيق اتفاق سوتشي حتى وأن حدث ذلك وفق حل عسكري بكل الحمولات التي يستحضرها ذلك الحل، إلا أن الصراع الراهن يبدو مثقلاً بمعطيات عديدة حاكمة له، لربما أبرزها الأزمة الإنسانية الناجمة عن وجود ما يقرب من ثلاثة ملايين نسمة هم أشبه بالأسرى ومن الصعب تحييدهم، ومنها أيضاً أن ثمة رهاناً سورياً على أن تؤدي العمليات العسكرية في محيط إدلب إلى تفكيك «هيئة تحرير الشام» الأمر الذي يمكن أن يجتزئ الكثير من المآسي والآلام والخسائر، إلا أن الجديد في الأمر والذي قد يدفع نحو إيمان روسي بجدوى الحل العسكري في إدلب، هو «قانون قيصر» الذي وقعه الرئيس الأميركي في 20 من الشهر الجاري بعد أيام من زيارة وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف لواشنطن التي كان من بين أهدافها بالتأكيد إقناع الرئيس الأميركي بتأجيل ذلك التوقيع، وهو أمر سيدفع بموسكو نحو انعطافة في رؤاها التي كانت تركز على محاولة تسريع الحل السياسي إيمانا منها بأن خطوة من هذا النوع كان يفترض أن تؤدي إلى تشجيع الأوروبيين للانخراط في مشاريع إعادة الإعمار في سورية، وما بعد «قيصر» الذي كان صادماً للروس كما يبدو أكثر من غيرهم، بات من المؤكد أن تلك الرؤيا لم يعد بالإمكان الرهان عليها، بل على العكس فإن الرهان سيصبح على تحصين المواقع بعد التحديات التي سيخلقها إقرار «قانون قيصر» الذي ليس من الصعب استكشاف غاياته، فهو على الرغم من تشدده الواضح، إلا أنه تعمد ترك الباب موارباً، أو مفتوحاً، أمام ترامب لتخفيف العقوبات، أو حتى إلغائها، إذا ما اختارت دمشق، ومعها موسكو، طريق المقايضة مع واشنطن، الأمر الذي نعتقد أن زمنه قد مضى أقله منذ أواخر العام 2016.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن