ستبقى مسألة الحرية والديمقراطية والمساواة والعدالة والنظم السياسية الشغل الشاغل للمفكرين في العالم، وثمة وجهات نظر لتزفيان تودوروف مؤلف كتاب «أعداء الديمقراطية الحميمون» -ترجمة د. مناف عباس ومراجعة د. جمال شحيد- الذي عاش في أنظمة مختلفة وأزمنة انتقالية عاصفة.
إنه كتاب جدير بالدراسة والبحث، ربما من المفيد ألا يصل الفكر الإنساني إلى إجابات نهائية عن هذه المسائل، فهي في منحى تطوري مستمر وما يهددها في هذه المرحلة هو تناقضها الداخلي في البلدان التي طبقتها. لهذا السبب نجد أن قراءة هذا الكتاب تشكل فائدة معرفية لدوحة الباحثين والمهتمين بالشأن العام في عالمنا العربي.
الديمقراطية
يعرف الكاتب النظام الديمقراطي بأنه مجموعة من الخصائص المجتمعة التي تكوّن مركباً معقداً تتمايز في داخله حدودها وتوازناتها بشكل متبادل، ومن دون أن تكون العلاقة بين هذه الخصائص علاقة تضاد متقابل فيما بينها إلا أنها تختلف في منشئها وغاياتها، أما في حال اختلال التوازن الذي ينظمها فلا بد حينها من إطلاق صفارات الإنذار.
الديمقراطية هي النظام السياسي الذي تعود فيه السلطة إلى الشعب وفقاً لمعنى أصل الكلمة أما على صعيد الممارسة فيقوم الشعب بمجمله باختيار ممثليه الذين يصنعون القوانين ويحكمون البلاد بشكل سيادي إبان فترة من الزمن محددة مسبقاً، وتمتاز المجتمعات الديمقراطية عن غيرها من المجتمعات التقليدية التي تؤمن بالالتزام بمبادئ الأسلاف أو حتى عن أنظمة الحكم الفردي المطلق الذي يقوده ملك ذو حق مقدس، ويكون تتالي الحكام فيه أمراً منوطاً بانتمائهم إلى الأسرة ذاتها، أما شعوب المجتمعات الديمقراطية فهي لا تخضع لمفهوم التجانس «الطبيعي» فهي تختلف ليس كمّاً فحسب بل نوعاً أيضاً عن الأسرة والعشيرة والقبيلة حيث يسود رابط القربى على ما سواه كما هو الحال لدى كل كيان جمعي قائم على حضور إحدى السمات المميزة كالعرق أو الدين أو اللغة الأم، كل من وُلد على الأرض نفسها يشكل جزءاً من شعوب هذه الديمقراطيات إضافة إلى أولئك الذين قبلوا على يدهم، ففي قلب المجتمعات الديمقراطية، أو نظرياً على الأقل، كل المواطنين متساوون في الحقوق وكل السكان متساوون في الكرامة.
تكون الديمقراطيات الحديثة تحررية عندما يترافق المبدأ الأساسي الأول هذا مع مبدأ ثان وهو حرية الأفراد، أما فيما يخص الشعب فيتمتع بالسيادة وأي خيار غير ذلك يهدف إلى إخضاعه لقوة خارجية لكن تبقى سلطة الشعب محدودة حيث تتوقف عند حدود الأفراد الذين هم أسياد منازلهم.
سجال قديم
يسلط الكتاب الضوء في حقبة من الماضي على أحداث قصة قبل نحو ألف وستمئة عام بدأت من روما عندما بدأ الدين المسيحي يقترب من السلطة السياسية حيث اعتنق الإمبراطور قسطنطين المسيحية وأصبحت المسيحية دين الإمبراطورية الرسمي مانعاً بذلك ممارسة الطقوس الوثنية، وبعد استعراض عدة أسماء من تلك الحقبة يلخص بالقول: لا مونتسيكو ولا روسو يعتقدان بأن للإنسان أن يُعرف بشكل دائم بامتلاكه منطقه الخاص وبخضوعه لما تمليه عليه إرادته، ويتبع ذلك أن كل حلم بالكمال على طريقة بيلاجيوس هو أمر محرم بالنسبة إليهما، ويدين مونتسكيو الاستبداد، إلا أن المبدأ الذي يطرحه لمواجهته هو الاعتدال والتوازي بين السلطات وليس مبدأ سيادة الفضيلة، أما روسو فقد توصل إلى نتيجة مشابهة عبر طريق مختلف تماماً أقرب إلى الاستسلام منه إلى الخيار، ويجب التذكير هنا بأن «العقد الاجتماعي» لا يوصف حالة طوباوية من الواجب تحقيقها، وإنما مبادئ الحقوق السياسية التي تتيح دراسة الدول القائمة والحكم عليها، في الوقت عينه لا يكف كلاهما عن المطالبة بحق الإنسان في اختيار تصرفاته بشكل حر، والكتاب ليس بصدد نكران هذا الاندفاع وإنما الإشارة إلى حدوده الدائمة والتقيد بهذه الحدود، في الواقع يتقبل مفكرو الأنوار هؤلاء ابتعاد العالم وكائناته عن الكمال دون أن يدفعهم ذلك إلى التخلي عن تحسينهم غير أنهم وعوضاً عن انتظار حلول النعمة الإلهية يفضلون دعوة البشر كي يضطلعوا بذلك بأنفسهم، وهم يحبذون لذلك القيام بخيار وسطي يرفض القدرية المحافظة تماماً كما يرفض حلم السيطرة الشاملة، إن الفكر الإنسانوي بمعناه الحرفي يقوم على هذه الرمزية المزدوجة بمشاركته مذهب الطوعية والاعتدال في آن معاً: إذ إن الأفضل ممكن الحدوث لكن الجيد يبقى بعيداً عن متناول أيدينا.
الخلاصة السياسية
يصف هذا الكتاب بمفردات بليغة الظروف المعيشية للطبقات المستغلة التي أصبحت سلعة بحد ذاتها، كما أنه يمثل الحلم بالوصول إلى المجتمع الكامل المشترك بين جميع أفراده، يقوم التحليل الذي يقدمه هذا الكتاب للمجتمعات السابقة على فرضية أن الصراع هو النسق الوحيد للتفاعل الاجتماعي الذي يتميز به تاريخ البشرية: من ذا الذي سيستحوذ على السلطة ويستخدمها من أجل استغلال الآخر؟ كما أنه لا شيء مشترك بين جميع أفراد هذه المجتمعات، فكل الأشياء تعود ملكيتها لأحد طرفي النزاع فقط.
عبارة باسكال الشهيرة تقول «من يرغب الظهور كملاك في هيئته كان شيطاناً في باطنه»، والمقصود أن ليس النظام العالمي في وضع أفضل حين يُسمح لمجموعة من البلدان بفرض إرادتها على الآخرين دون حدود، وتصبح حينها غواية الوقوع في المبالغة كبيرة للغاية مع احتمال تشويه صورة الديمقراطية في عيون أولئك الذين يروجون لها.
طغيان الأفراد
في الصراع ضد الشمولية، كانت الديمقراطية تواجه قوى تخمد حرية كل فرد، كان ذلك يمثل حالة تضخم لما هو جماعي على حساب الفردي، وكان هذا الجماعي خاضعاً لثلة قليلة من طغاة الحكّام، إلا أن أحد التهديدات التي ترزح تحتها الديمقراطية في العالم الغربي اليوم ليست نابعة من توسع مفرط للجماعة، بل هي تكمن بالأحرى في التقوية غير المسبوقة لبعض الأفراد الذين يعرضون بدورهم خير المجتمع برمته للخطر.
يقول بنجامين كونستان في إحدى كتاباته السياسية: «إن الاستقلالية الفردية هي أولى الحاجات الحديثة»، ففي رواية أدولف تدافع كتاباته السياسية والنقدية بحرارة عن فكرة استقلالية الفرد، إلا أن مبحثه الإنسانوي الموجود في تخيلاته وكتاباته الخاصة ومؤلفه الكبير حول الدين تقدم جميعها فكرة مختلفة عن الكائن البشري، يولد هذا الأخير في قلب المجتمع الذي كان قبله ومن ثم «ليس تطور الذكاء بحد ذاته إلا نتاج المجتمع» هويته علائقية إذاً بجوهرها: فالإنسان دائماً بحاجة للارتباط العاطفي وكل شيء في الحياة يتعلق بالتعامل بالمثل، وإن أردنا إيجاد حالة مثالية تنحو نحوها حياة الأفراد فستكون ممثلة بالحب أكثر منها بالحرية، وكما كتب كونستان في رسالته إلى إحدى صديقاته: «دائماً ما كانت الكلمة والنظرة والمصافحة تبدو لي مفضلة على المنطق وعلى كل عروش الأرض».
آثار النيوليبرالية
يبدأ الفصل الخامس بسؤال مهم جداً، هل أخطأ العلم؟ هناك قلق في حياة الديمقراطيات المعاصرة، ودون أن تكون نابعة بشكل مباشر من الأيديولوجيا النيوليبرالية، إلا أن هذه الأوجه تكسب أهمية جديدة ضمن القالب الذي تفرضه هذه العقيدة، إن الوقائع بحد ذاتها معروفة للجميع إنما مغزاها الشامل هو ما يشغلنا في هذا الكتاب.
وفي الفصل السادس يسلط الكتاب الضوء على الشعبوية ومعاداة الأجانب ليتوصل إلى نتيجة أن هذه الأيديولوجيا مدفوعة بالحاجة إلى إيجاد تفسيرات سهلة ومفهومة لكل ما يؤرق الحياة اليومية، تعمل على صنع خصم معروف تحمّله المسؤولية عن كل مصائبنا، وباستفادة الشعبويين من الآن فصاعداً من وسائل التواصل التي تتفوق على وسائل الماضي بما لا يقاس في عالم أضحى اليوم غير مفهوم للإنسان العادي، فإنهم حصلوا على حظوظ كبيرة في إقناع الجمهور بوصفاتهم السحرية والوهمية بالمقدار نفسه، هم يرفضون أن يوجهوا أنظارهم خارج إطار الحاضر، ويفضلون تجاهل وجهات النظر المتعددة وتصارع المصالح وعدم تجانس المجتمع، على الرغم من أن تحدّثهم في كل لحظة باسم الشعب يؤدي إلى تحويل الديمقراطية عن وجهتها الحقيقية معرضين إياها لخطر كبير على غرار ما فعله معتنقو الخلاصية والليبرالية الجديدة.
وعن مستقبل الديمقراطية يختم الكاتب كتابه «مستقبل الديمقراطية» بالقول: نحن جميعاً، سكان كوكب الأرض منخرطون اليوم في المغامرة عينها ومحكوم علينا بالنجاح أو الفشل معاً حتى وإن كان كل فرد منا عاجزاً أمام هول التحديات، فإن ذلك الأمر يبقى حقيقياً.