ثقافة وفن

«صخرة الجولان» لعلي عقلة عرسان … رواية حرب تحدد سبل المواجهة على أكثر من صعيد

| إسماعيل مروة

عندما نقف عند كاتب بمكانة علي عقلة عرسان، فهذا الوقوف يستوجب علينا أن نحدد معالم الرجل وقضاياه، إذ لا تمثل روايته الجيدة (صخرة الجولان) طفرة في كتاباته وأدبه، وليست مرحلة صحوة، وليست كذلك رواية مناسبة صيغت في حرب تشرين، وليست تمجيداً للبطولة كما يزعم كثيرون، وكما يوهم اسمها.
علي عقلة عرسان مسرحي ومخرج وشاعر قبل أن يكون روائياً وباستعراض أعماله إبداعية ودراسات، فإننا نجد أن الكاتب أعطى ذوب أدبه للقضايا العربية والقومية من مسرحيته فلسطينيات، إلى مسرحيته الغرباء، إلى مسرحيته الأقنعة، ففي كل نص من هذه النصوص دون علي عقلة فاصلة من فواصل التاريخ القومي والوطني.

وفي دراساته ابتداء بـ«الظواهر المسرحية عند العرب مروراً بسياسة في المسرح والعار والكارثة وأيام في شرق آسيا كان علي عقلة عروبياً منتمياً خالصاً، حيث حاول تعزيز وجود المسرح العربي، ونذر قلمه للدفاع عن العروبة في وجه الهجمات الاستعمارية التي استهدفته.
هذا يعني أن علي عقلة عرسان ليس كاتباً يحتفي بالمناسبات، وإنما هو كاتب منذور للقضايا الفكرية والقومية، وقد أخذ عليه بعضهم إثقاله النص الأدبي الإبداعي بالفكر والطروحات السياسية، وذلك لم يمنعه من متابعة مسيرته ورحلته كما أراد وكما صاغ فكره لبنة لبنة.

أما روايته صخرة الجولان، فهي روايته الوحيدة، وقد تناقشت فيها معه، وعبرت له يومها أن العنوان كان من المفترض أن يكون مختلفاً حتى لا ينظر إليها النقاد على أنها مرهونة بحدث أو سياسة، فاستغرب وأصر، وقال لي: إنها صخرة الجولان، والصخرة في الجولان، ولا بديل عن الجولان السوري، فمن شاء أن يحكم على النص من عنوانه فليفعل، وتمسك بعنوانه وروايته وطروحاته فيها.
صخرة الجولان والتوقيت وقعت حرب تشرين عام 1973 في السادس من تشرين، وقد صدرت عشرات الكتب التوثيقية، والروايات والكتب بعدها مباشرة، وبعضها تحول إلى وثائق ومصادر تاريخية وحسب، ومن الصعوبة بمكان أن نجد أثراً من هذه الآثار في مصاف الأدب اليوم، وإن كانت رواية حنا مينه المرصد قد احتفظت بمكانة مقبولة في أدبه الروائي، والأدب المعني بحرب تشرين.

تابع عرسان الحرب بمقالات ومتابعات، وبتمثيليات إذاعية، ولكن روايته تأخرت في الصدور حتى عام 1983 أي بعد عشر سنوات من الحرب، وفي المقياس النقدي يعد هذا التوقيت لصالح العمل الروائي، إذ أخضع الروائي نصه للتقليب والتخمير حتى استوى رواية بعيدة عن العاطفة المباشرة والارتجال، وظهر ذلك جلياً في إحدى بيئات الرواية، وهي المعتقلات التي كان الكيان الصهيوني يخضع الأسرى فيها للتحقيق، ومن متابعتي وجدت أن هذه البيئة لم تكن ناجحة التصوير وصحيحة إلا عند عدد من الكتاب الذين عانوا الأسر، وعند علي عقلة عرسان، لأن المسافة الزمنية بين الحرب ونشر الرواية كانت كفيلة بإظهار صورة أقرب للدقة من خلال روايات الأسرى العائدين من سجون الكيان الصهيوني، ما أعطاه مصداقية ووثوقية.

البيئات وتعددها

كانت الرواية رواية فكر مقاوم أكثر من أن تكون رواية حرب، لأن الكاتب فيها اختار مجموعة من البيئات المتعددة، سواء كانت البيئة استرجاعاً أو تصويراً مباشراً في مواقع القتال، أو في سجون الاحتلال، أو في القرية التي خرج منها المقاتل متوجهاً إلى ساحة المعركة، وقد أجاد في رسم البيئات المتعددة، خاصة البيئة الريفية التي خرج منها المقاتل، إذ رصد الكاتب التحولات الاجتماعية، وآثار الحرب، والنوازع الاجتماعية.

التشريح الاجتماعي

يستثير حميتك وغضبك ما تعامل به أهل القرية مع زينب زوجة المقاتل في أثناء غيابه، سواء كان ذلك صادراً عن البائع الطماع اللا أخلاقي، أو من المحيط بشكل عام، ولكن هذا التشريح الاجتماعي كان عنصراً بارزاً في رواية علي عقلة عرسان، إذ ابتعد عن الطوباوية والشعاراتية، ولم يعقم المجتمع كما فعل كثيرون ممن تناول مجتمع المقاتل الشهيد، فأبرزوا المجتمع سليماً معافى معقماً، وكأن المجتمع كتلة واحدة في مواجهة العدوان، لكن فعل الأنسنة والبشرية الذي أراده علي عقلة عرسان، وخدمته في إظهاره طول المدة بين الحرب والكتابة جعلت الرواية أقرب إلى المنطق، وإلى سيرورة الحياة، وجعلت منها رواية تحمل فكراً مقاوماً، وربما تلمح إلى ضرورة معالجة أمراض المجتمع لمواجهة العدوان الخارجي، وأي عدوان خارجي لا يمكن أن يواجه إلا بعد معالجة الأمراض الداخلية، لذلك كان محمد المقاتل يواجه العدو ويقاتل، وكان يدفع الضريبة من أسرته وجوعها، وزينب وسمعتها، وهو في الصفوف الأولى، يتشبث بصخرة الجولان ويأبى أن يغادرها.
وقد قدم عرسان البيئة الاجتماعية على حقيقتها، فانقسم الأمر عنده إلى:

– صاحب العمل الذي كان حادباً وحنوناً على زينب وأولادها، والذي كان يقدم لها العون، والذي لم يستطع أن يتخفى وراء نبله ومساعداته، وعندما علم أن محمد المسعود أسير انتابه الحزن، لأنه كان يأمل بأن تكون زينب معه ليتابع حنانه على أولاد محمد.

– البائع السيئ الذي تظاهر بالمساعدة، ولكن كان يطالب زينب بما يترتب عليها من دين بعد أن يحاول إغراقها بالدين، لعله يصيب منها ما يريد، وقد صوّر عرسان شهوة هذا الرجل ودناءته ببراعة، خاصة عندما يقابل نحرها ويريد أن ينقضّ على بياضها.
«وراح أحمد الحسن يحلم متلذذاً باستعادة ملمس يد زينب، وتأثير لمعة نحرها الأبيض وقوامها الممشوق».

– أم سليمان تلك العجوز التي ترضخ لطمعها، وعروض أحمد الحسن محاولة أن تجعل أحمد الحسن ينال من زينب مقابل أعطياته لها، وتفعل فعلها مذكرة القارئ بدور العجائز في قصص التراث العربي، وعلي عقلة عرسان هو صاحب مقولة «المرأة مفتاح المرأة لرجل».

– مجتمع قرية كحيل التي منها محمد المسعود، هذا المجتمع القائم على الحكايا والإشاعات، وتفاعله مع الأخبار القادمة من هنا وهناك، ولكن دون أن يلتفت إلى دوره تجاه هؤلاء الذين ضحوا بأنفسهم من أجل البلد والتراب.

الأسر والتحقيق

يقدم لنا عرسان عالم الأسر على حقيقته، وهو الذي تأخر في صياغة روايته، وربما أخذ هذه التفاصيل في عالم الأسر من خلال العائدين إذ ينقسم المحققون إلى فئتين، فئة قاسية وأخرى تظهر الحنان المصطنع، ويكاد محمد المسعود يتعاطف مع المحقق الذي يظهر الحنان، لكنه لا يعرف شيئاً ولا يملك شيئاً ليقوله، وحتى الأشياء التي يعرفها يعجز عن قولها لأن الضمير حاضر في وجدان المقاتل مبتور الساق الواقع في الأسر الممض القاتل.. وينهال عليه المحقق اللطيف بأنواع من التعذيب لم يكن يتخيلها بعد أن يفقد الأمل منه ومن الحصول على أية معلومة.

رواية صخرة الجولان رواية وحيدة لكاتبها المسرحي علي عقلة عرسان، وهي رواية مهمة عن تشرين وحربها، وعن المجتمع العربي وتشريحه ومفهومه للحرب والقتال، وعن العلاقة التي تربط الإنسان بالأرض، فما من شيء يعادل الأرض عند العربي مهما حصل.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن