كثر في الآونة الأخيرة الحديث عن سعر صرف الدولار وارتفاعه بشكل كبير في مقابل الليرة السورية وانخفاض قوتها الشرائية بشكل ملحوظ، وللأسف انبرى عدد كبير من الذين يدعون أنهم محللون وخبراء بالحديث عن هذا الموضوع وتقديم الاقتراحات والوصايا لمعالجة هذه المشكلة التي أصبحت أزمة حقيقية بكل ما لهذه الكلمة من معنى، وذلك لانعكاسها المباشر على حياة الناس ومعيشتهم؛ فارتفاع سعر صرف الدولار يؤدي حتماً إلى زيادة قيمة البضائع والسلع والمواد المستوردة وزيادة تكاليف الإنتاج، ويستتبع ذلك انخفاض القوة الشرائية لدخل المواطن بسبب ارتفاع تكاليف المعيشة التي فاضت كثيراً عن قدرته بسبب ثبات الأجور نسبياً واتساع الهوة بين دخل المواطن وأعباء المعيشة من غذاء ودواء ولباس وسكن وكهرباء ومازوت، لدرجة أن كلاً منا اضطر للاستغناء عن الكثير من احتياجاته لعدم قدرته على تأمينها؛ ما ينعكس سلباً على صحة عائلته وأطفاله في ظل عدم وجد ضمان صحي.
طبعاً أنا أتحدث عن ذوي الدخل المحدود الذين أصبحت نسبتهم لا تقل عن 80-90 بالمئة من المجتمع في مقابل 10 بالمئة أو 20 بالمئة في أحسن الحالات يحصلون على دخول عالية تكفيهم لتغطية تكاليف معيشتهم، وجزء من هؤلاء يحصلون على النسبة الأكبر من الدخل القومي ويعيشون حياة ترف وبذخ ويسعون لإقامة تجمعات سكنية راقية تنقلهم لعالم آخر بعيداً من المعاناة وضعف الخدمات.
علينا أن نقر أن السياسات الاقتصادية التي انتهجتها الحكومة خلال العقد الأول من هذا القرن كانت خاطئة وغير صائبة وتصب في مصلحة الذين ينادون باقتصاد السوق الحر الذي تم تجميله بتسميته «اقتصاد السوق الاجتماعي» وبقي هذا المصطلح فضفاضاً من دون تحديد مفهومه وآليات العمل به، ولم يدرك المعنيون أن اقتصاد السوق يتطلب تهيئة بيئة صالحة وبنى تحتية قوية ضمن إطار مؤسسات الدولة التشريعية والتنفيذية والقضائية؛ هذا إذا سلمنا بصلاحية هذا النهج لبلادنا التي لا تعتبر من الدول الغنية.
وعلينا أن نعترف أن هذه السياسات أدت إلى زيادة معاناة الناس من ذوي الدخل المحدود، وإضعاف دور الدولة في الحياة الاقتصادية؛ فبدلاً من أن تكون هي التي تقود الاقتصاد أصبحت تبحث عن التشريعات والقوانين التي تعلي من شأن القطاع الخاص المتمثل بعدد من رجال الأعمال لدرجة أنه في غفلة من الزمن تم تعديل قانون العمل لمصلحة أصحاب العمل، وكذلك إصدار قانون التشاركية الذي اعتبرته في حينه مقدمة ومدخلاً للخصخصة التي ارتفع صوت المنادين بها في حينه.
رافق تطبيق هذه السياسات انتشار ظاهرة الفساد واختراقها جميع مؤسسات الدولة والمجتمع، وأصبح الفساد أمراً مسلماً به وكما يقال «على عينك يا تاجر» فوصل إلى أجهزة الرقابة والتفتيش والقضاء؛ ما شجع غير الفاسدين على الاندماج في مجتمع الفساد ليتمكنوا من تأمين متطلبات حياتهم ومعيشتهم ومستقبل أولادهم.
في ضوء ما تقدم علينا أن نصارح أنفسنا ونقول كلمة الحق بكل جرأة وموضوعية للخروج من هذه الأزمة المالية والاقتصادية التي لها بالتأكيد انعكاسات سياسية انطلاقاً من الارتباط العضوي بين السياسة والاقتصاد، وأن نقف في مواجهة هؤلاء المنافقين والانتهازيين الذين يتحدثون خلافاً للحقيقة والواقع، وهم في مجملهم من الفاسدين والمفسدين وبتعبير أصح من المأجورين لهؤلاء الفاسدين والمفسدين.
إن واقع الحال يتطلب حلولاً إسعافية لا بد منها لوقف التدهور المتزايد في سعر صرف الدولار، وهذا منوط بالفريق الاقتصادي في الحكومة الذي يجب عليه الاستعانة بكبار أساتذة الاقتصاد والخبراء لوضع الآليات والتدابير الإسعافية المطلوبة بعيداً من التنظير والنظريات، ويستحسن الدعوة إلى مؤتمر موسع وعاجل لذلك، وعلينا أن ندرك أن أميركا تستخدم الدولار كسلاح في محاربة الدول وإخضاعها، وأن القوة الأكبر في مواجهة ذلك تكمن في التوصل إلى جمع القوى الوطنية لكل مكونات الشعب السوري وانتماءاتهم ضمن إطار المواطنة وتحصين الوطن.
ولعلي أنصح بأن يتم اتخاذ التدابير العاجلة بملاحقة الفاسدين الكبار واسترداد الأموال المنهوبة، وإيقاف جميع المشاريع غير الملحة، وفرض ضرائب ورسوم عالية على المنشآت السياحية والترفيهية، وتحصيل الضرائب المترتبة على المستوردين وتجار الجملة بدلاً من ملاحقة صغار التجار والباعة.
وإن واقع الحال يتطلب الخوض في كل ما يتعلق بالوضع المالي والاقتصادي والسياسي للدولة من الموازنة العامة إلى الميزان التجاري وميزان المدفوعات، وتحديد النهج الاقتصادي الذي يُناسب بلادنا من دون الرضوخ لإملاءات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي اللذين يعملان لفرض العولمة وقوانينها الجائرة دون الأخذ بالحسبان واقع الدول الفقيرة والمحدودة الموارد.
لا بد من وضع رؤية متكاملة تحدد الأولويات بوضوح، وتكون ملزمة للجميع.