قضايا وآراء

النظام التركي والخطأ الإستراتيجي الأكبر

| محمد نادر العمري

مازالت السياسة الإقليمية التركية تجاه منطقة الشرق الأوسط بشكل عام والمنطقة العربية بشكل خاص، تمثل مستنقعاً من المآزق الحقيقية والجدية أمام أمن واستقرار الدول الواقعة في هذه المنظومة ومثار جدل دائم، نتيجة لما تتسم به السياسات الخارجية للنظام التركي الذي يرى نفسه الفاعل الأبرز والأقوى لقيادة منطقة الشرق الأوسط وليس جزءاً منها، وذلك لأسباب تتعلق بالإرث التاريخي الممتد إلى العهد العثماني الذي سيطر فيه الأتراك على المنطقة العربية والبلقان وآسيا الوسطى، بالإضافة لموقع تركيا الجغرافي بين أوروبا وآسيا، فهي الجارة الطامعة للدول العربية والحليف الصامت لإسرائيل والشريك الأطلسي الإستراتيجي لدول الغرب والند الدائم لإيران والخصم السني والبديل للسعودية والمغازل للولايات المتحدة الأميركية والمعاند لها عند الضرورة، والشريك الزيبقي لروسيا.
ضمن هذا الإطار فإن ليبيا تشكل محطة مهمة في الأجندة التركية الرامية لبسط مشروعها الإقليمي في المنطقة، حيث تقدم الدعم لحكومة فايز السراج والميليشيات المؤيدة له في مواجهة قوات المشير خليفة حفتر، ووقعت مع السراج مذكرتي تفاهم حول ترسيم الحدود البحرية، وتعزيز التعاون الأمني، ومن المرجح أن يتخذ البرلمان التركي اليوم الخميس قراراً يجيز التدخل العسكري في ليبيا وإقامة قاعدة عسكرية لها في مدينة طرابلس على غرار ما حصل في قطر منذ عامين.
وبناء على ذلك فإن أنقرة أمام سيناريوهين: الأول التهديد بإرسال قوات عسكرية لها لليبيا للحصول على بعض الامتيازات الاقتصادية وحجز مكانة سياسية لها في أي حل قادم، والثاني أن تقدم على ترجمة وعودها، وتقيم قاعدة عسكرية لها في طرابلس وتعتمد على مقاتلين يتم نقلهم من إدلب كذراع عسكري لها يقاتلون إلى جانب حكومة الوفاق لضمان المصالح التركية.
التطورات المتسارعة تفيد أن السيناريو الثاني هو الأرجح بعدما أكدت صحيفة «يني شفق» التركية في تقرير منشور لها، أن الحكومة طلبت من القوات المسلحة التركية تجهيز السفن والطائرات الحربية استعداداً لنقل القوات التركية إلى ليبيا، مؤكدة أن عملية النقل إلى مدينة طرابلس بدأت، والسفن التي ستقوم بنقل الطائرات المسيّرة والدبابات والقوات الخاصة ووحدات الكوماندوز التابعة لقيادة مجموعة الهجوم تحت الماء باتت جاهزة.
وتسعى تركيا عبر تعزيز وجودها العسكري في ليبيا إلى تحقيق عدة أهداف، يمكن بيانها على النحو الآتي:
• تحقيق إنجاز في إطار الصراعات الجيوسياسية:
1. رغبة تركيا في فرض موطئ قدم لها في شمال إفريقيا، من خلال البوابة الليبية التي تطل على البحر المتوسط وتجاور مصر والجزائر ونيجيريا وتشاد، وكلها دول مهمة في أمن واستقرار القارة، في إطار سياسات أنقرة الرامية لتوسيع دائرة نفوذها في القارة الإفريقية، التي أصبحت محط أنظار القوى الدولية والإقليمية، من خلال قواعد عسكرية لها في منطقة القرن الإفريقي وفي الصومال تحديداً.
وفي الوقت ذاته فإن السيطرة على ليبيا تؤدي إلى تهديد أمن مصر وتدعم موقف الإخوان.
2. تعويض تركيا بمساحات نفوذ جديدة بعد تراجع دورها نسبيًا في سورية لأسباب تتعلق بالتقدم الأخير الذي حققه الجيش السوري، والتي تفرض على أنقرة مزيداً من التحجيم والقيود في دورها المتدخل في سورية وعدم وجود أفق محتمل لإقامة ما يسمى المنطقة العازلة وديمومتها، كما تراجع الدور التركي في العراق بسبب رفض بغداد تدخلها في الشمال العراقي.
3. صراع النفوذ الداخلي وتأثيراته الخارجية: يعكس التوجه التركي نحو تعزيز نفوذه العسكري في ليبيا والإصرار على محاولة تشريع تمدّد تركيا في ليبيا، لكن عبر غطاء قانوني إضافة إلى حماية خططها في البحر المتوسط في مواجهة أطراف إقليمية، تضم مصر واليونان وقبرص والكيان الإسرائيلي. لذا تحرص تركيا على دعم حكومة السراج التي تحظى بدعم من ميليشيات مصراتة القريبة من أنقرة، والتي تشير بعض التقديرات إلى وجود ما يقرب من 20 و30 ألف مقاتل فيها وتنوي رفع قوامها لقرابة 50 ألفاً، وخاصة من «فيلق الشام» وبعض فصائل ما يسمى «الجيش الوطني» منهم مجموعة السلطان مراد ولواء السلطان سليمان شاه وهو ما أشار إليه تقرير حديث لصحيفة «ميدل إيست آي» التي رجحت تولّي «فيلق الشام» المقرب من أنقرة، زمام المبادرة في هذه العملية، وذلك بسبب شراكة عناصره سابقاً مع ميليشيات ليبية، إذ «سبق أن أرسلت الفصائل الليبية في طرابلس الغرب، أسلحة وذخيرة في عام 2011 لدعم مجموعات مسلحة، إلى جانب إرسال عدد من قادتها إلى سورية»، كما أرسل «فيلق الشام» في المقابل «مسؤولين لتقديم المشورة لقوات طرابلس في عام 2014، ضد قوات بنغازي».
على صعيد متصل كشفت بعض المصادر الليبية عن أن طائرات أوكرانية تقوم برحلات جوية بين تركيا وليبيا، وعلى متنها أسلحة ومعدات من تركيا إلى حكومة فايز السراج فضلاً عن نقل عناصر من الشمال السوري.
• المصالح الاقتصادية:
1. السيطرة على مصادر الطاقة والهيمنة على الغاز: تسعى تركيا للهيمنة على الغاز في شرق المتوسط قبالة السواحل القبرصية، وتعزيز نفوذها في المنطقة، وتحصيل أكبر قدر ممكن من المكاسب. وتصاعدت حدة التوترات بين تركيا، ودول شرق المتوسط بسبب الاكتشافات الغازية، التي قدرت دراسة صادرة عن هيئة المساحة الجيولوجية الأميركية في 2010 حجم احتياطي الغاز في حوض شرق البحر المتوسط بنحو 345 تريليون قدم مكعب من الغاز، ويحتوي هذا الحوض أيضاً على كميات ضخمة من الاحتياطيات النفطية تبلغ 3.4 مليارات برميل من النفط، إلى جانب كميات كبيرة أيضاً من سوائل الغازات.
والأرجح أن ثمة مصالح معقدة تقف وراء سعى تركيا للانخراط في الأزمة الليبية، فبالإضافة إلى تعويض فقرها من مصادر الطاقة، ترغب تركيا في تعزيز مكانتها كمركز عالمي لنقل الطاقة من خلال سيطرتها على الغاز الذي يحيط بالسواحل الليبية. وفي هذا السياق، وقعت تركيا اتفاقية مع حكومة السراج حول مناطق السيادة البحرية في المتوسط.
2. كما أن تركيا تستهدف من تأسيسها قاعدة عسكرية جديدة في طرابلس تحقيق مجموعة من الأهداف الاقتصادية، أولها الرغبة في فتح أسواق جديدة للأسلحة التركية التي تنتجها أنقرة، فقد ارتفعت الصناعات العسكرية التركية في عام 2019 لتصل إلى أكثر من سبعة مليارات دولار، ويتجاوز 40 بالمئة منها للتصدير إلى مناطق الصراعات، بما فيها لحكومة فايز السراج في ليبيا، وهو ما ينعكس على الاقتصاد التركي الذي يعاني تراجعاً غير مسبوق بشكل إيجابي. كما تمثل الأوضاع في ليبيا سوقاً مهماً لاختبارات السلاح التركي، لذلك تصر تركيا على شراكة مع القطبين الدوليين على إنتاج الصواريخ والطائرات، ويرتبط الهدف الثاني من إنشاء القاعدة العسكرية في طرابلس بسعي تركيا لتمكين التيارات الموالية لها على الأرض، بهدف وضعها على رأس السلطة في ليبيا، وهو ما يعنى ضمان الاستحواذ على أكبر قدر ممكن من مشاريع إعادة الإعمار في ليبيا.
3. استثمار سيطرتها في ليبيا لتهديد أوروبا بالمزيد من موجات النزوح لابتزازها اقتصادياً.
• تصدير الأزمة الداخلية التركية:
حيث يواجه الداخل التركي أزمات متتالية لأسباب اقتصادية وجيوسياسية، تمثل أبرزها في استمرار تراجع سعر صرف الليرة وعجز الحساب الجاري وتفاقم الديون الخارجية منذ العام الماضي 2018، فضلًا عن تورط أنقرة في الملفين السوري والعراقي وما لذلك من تداعيات اقتصادية وسياسية وأمنية واجتماعية على الداخل التركي، وليس أدل على ذلك من تراجع شعبية الحزب الحاكم «العدالة والتنمية» منذ 2002 في الانتخابات التشريعية الأخيرة، وخسارته أهم المعاقل الرئيسة والمدن الكبرى وتحديداً إسطنبول وأنقرة وأزمير. وتزايد شعبية قوى المعارضة، فضلاً عن أن نقل الإرهابيين من الشمال السوري باتجاه ليبيا قد يكون جزءاً من هذا القرار لحماية الأمن القومي التركي في ظل تقدم الجيش السوري واستعادته للأراضي السورية، فإن هؤلاء قد يلجؤون لتركيا وقد يتحولون لقنابل موقوتة قابلة للانفجار في أي لحظة.
تركيا ارتكبت خطأ إستراتيجياً جديداً في تدخلها بليبيا ليس فقط لأن هناك مساحة جغرافية بعيدة ليست كسورية والعراق، بل لأن حلفاءها في العدوان على سورية وخاصة الأوروبيين هم في حلف ضدها إلى جانب مصر وروسيا، وتوسيع جبهات القتال قد يؤدي بل من المؤكد أن يؤدي لاستنزاف القدرات وعلى أردوغان أن يراجع تاريخ انهيار السلطنة العثمانية.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن