من دفتر الوطن

الذي أَنْطَقَ الحجر

| حسن م. يوسف

علمتني التجربة المرة ألا أكتب عن أية مسألة إشكالية إلا بعد أن أستفسر حولها من عدة مصادر مختلفة، إلا أنني استسلمت مع الأسف للمعلومات المغلوطة التي بلغتني من شخص كنت أقدره كثيراً، شكّكَ بأصالة اكتشاف الدكتور فواز الأزكي «للديناصور السوري»، ما أطفأ فضولي لزيارة متحف الدكتور أزكي الجيولوجي في قريته قسمين. كما أنني لم أستغل فرصتين أتيحتا لي للتعرف عليه شخصياً، وهكذا صح فيّ المثل القائل «من مأمنه يؤتى الحذر».
أما وقد أصبح الدكتور فواز الأزكي في دار الحق وزرت متحفه قبل أيام، فإنني أجد نفسي ملزماً بإنصافه مني، وخاصة بعد أن قرأت مذكراته: «حين ينطق الحجر»، وتعرفت على الخيبات المرة التي عانى منها والمؤامرات الرخيصة التي تعرض لها.
يشير الدكتور أزكي في مذكراته إلى أن أمه قد أنجبته في الخامس من تشرين الثاني 1959 في مغارة، قرب عين قسمين في وادي الشروبة، المتصل بنهر الكبير الشمالي. إذ جاءها المخاض وهي في طريقها لجني ثمار آخر شجرة زيتون في موسم ذلك العام.
في الصف الرابع الابتدائي كان فواز في العاشرة من عمره عندما طلب معلم الصف من التلاميذ كتابة موضوع إنشاء عن طموحاتهم المستقبلية. وقد كتب فواز، الذي لم يكن قد سمع بمصطلح الجيولوجيا بعد، أنه يريد أن يدرس «علم الأرض».
كبر فواز وكبر معه حلمه، ففي عام 1975 قام الفتى فواز بتتبع مجرى نهر الكبير الشمالي من مصبه إلى منبعه. وقد استغرقت منه الرحلة ستة أيام سيراً على الأقدام. ونظراً لعدم وجود كلية جيولوجيا في جامعة تشرين، فقد اختار أقرب الاختصاصات إلى الأرض، فانتسب إلى كلية هندسة البترول في حمص، لكنه غادرها بعد عام عندما حصل على منحة لدراسة الجيولوجيا في رومانيا. أظهر فواز تفوقاً مدهشاً في دراسته، إذ كان يتعرف على المستحاثات من لمسها دون النظر إليها. وقد ارتجل مشروع تخرجه أمام لجنة الحكم فمنحته العلامة الكاملة.
إثر عودته إلى البلاد عين فواز في مؤسسة مياه اللاذقية. وكيلا يبقى من دون عمل، اقترح على مديره أن يقوم بإعداد خريطة هيدروجيولوجية لمنطقة اللاذقية، ثبت عليها معطيات الآبار والينابيع وجداول المياه. وعندما قدم فواز حصيلة جهده للمدير العام قال له: «إذا تركتها عندي سوف تضيع ولن يقرأها أحد. يمكنك الاحتفاظ بها، ربما تفيدك في المستقبل».
وقد وصف فواز أزكي شعوره حين قال في مذكراته « كانت الخيبة لا توصف… حقاً لقد كان أول اغتيال لطموحي ولتفوقي الجامعي».
أدرك فواز أن الركون لوضعه كموظف ومدرس، من شأنه أن يقضي على شغفه. فراسل جامعة بوخارست وعندما حصل على قبول لدراسة الدكتوراه أخذ استيداعاً بلا راتب وسافر. ونظراً لأنه لم يكن لديه أي مصدر للدخل، فقد عاش مرارة الجوع والتشرد والنوم في المترو قبل أن يتمكن من العثور على عمل. لكن ذلك لم يؤثر في تفوقه العلمي؛ فعندما عقد مؤتمر فيزياء الأرض في بوخارست عام 1994 تقدم ببحث نال عليه جائزة سابا في الجيوفيزياء. وعندما حصل على الدكتوراه عام 1995 منحته أكاديمية العلوم الرومانية والجمعية الجيوفيزيائية الرومانية ميدالية العلوم لذلك العام.
عقب عودته إلى البلاد تابع الدكتور فواز التدريس في الجامعة من دون أن ينقطع عن البحث الجيولوجي الميداني. وفي عام 2001 اكتشف جنين الديناصور السوري في قرية العامود في صلنفة، واكتشف بيضة الديناصور في قرية بسمالخ بريف جبلة في العام نفسه. وبالرغم من أن أعداء النجاح قد سمموا حياة الدكتور أزكي بالإشاعات والدسائس، إلا أنه رد عليهم بمزيد من العمل، فقرر تحويل بيته في قسمين إلى متحف جيولوجي مجاني هو الوحيد من نوعه في سورية!
كان الدكتور أزكي رجلاً متعدد المواهب. فإضافة لبحوثه العلمية كان يكتب الشعر والرواية، وقد سحرني قوله: «حين يأتي الرحيل… لن أحزن/ لأن لي قلباً آخر، في صدر صديقي».
أحسب أن حياة الدكتور فواز أزكي تصلح مادة لمسلسل شيق. إلا أن خير ما أختتم به حديثي عن هذا الرجل الفذ هو قول الكاتب الإنجليزي جوناثان سويفت: «عندما يولد عبقري في هذا العالم، يمكنك أن تميزه بهذه العلامة، يشكل الحمقى تحالفاً ضده».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن