بينما جلسا يحتسيان معاً شراب المتة، على الطريقة اللاتينية، سأل المخرج الصربي المعروف أمير كوستاريكا، «أفقر رئيس في العالم» السياسي الاشتراكي خوسيه موخيكا الشهير بلقب «بيبي» ماذا ستفعل لو كان لديك ثمانون مليار دولار؟
يجيب الرجل كمن أدهشه السؤال أنه «من المستحيل أن يتوافر مبلغ مثل هذا لدي، سأوزعه قبل أن يصل إلى جيبي».
لكن كوستاريكا يلح لجواب فيجيبه «لو كنت مثله (أي أغنى رجل في العالم) لبقيت تحت ضغط قلق واحد هو: من الذي سيسرق مالي».
فيلم كوستاريكا الجديد يستكشف الإنسان خلف الرئيس الاستثنائي، الذي وهب 90 بالمئة من راتبه كرئيس بين عامي 2010 و2015 للفقراء (حوالي 12 ألف دولار شهرياً)، والذي يعيش من دون حراسة، ويقود سيارة فولسفاكن خنفساء من إنتاج عام 1987، ويقدم أفكاره التي تحتاج مئات الملايين للتطبيق، هذا إن توافرت الإرادة لتنفيذها.
فيتحدث عن إمكانية جلب كميات هائلة من المياه المالحة إلى قلب الصحارى كي يتبخر الماء ويتغير المناخ، خلْق أنهار جديدة من الماء الذائب في سيبيريا وجر الماء العذب على منغوليا والجزء الجاف من آسيا، واستغلال الماء الذائب من ألاسكا وتغيير مناخ أتاكاما أكثر الصحارى جفافاً في العالم.
أفكار لا تحتاج لثورة في الوعي البشري العالمي، فقط، بل إلى تعاون دولي لا يمكن رؤيته في أي مستقبل منظور سوى من الحالمين، لكن هذا ما يستدعي النضال من أجله بالنسبة لبيبي. «فما حاجة العالم لسيارة بمليوني دولار»؟ أو تكديس المليارات في أحضان العجزة، أو نخبة من العائلات المحدودة؟
ولا يعني النضال أن تقاتل فقط من أجل الفقراء، كما فعل هو في سنوات شبابه الثورية، حين كان منتمياً لحركة «توبا ماروس» الفوضوية اليسارية، والتي مارست الكفاح المسلح لفترة قصيرة من الزمن ضد الحكومة في الأورغواي، بل يعني أن تطبق أفكارك على حياتك، حتى حين يلتفت إليك القدر، ليضعك في موقع الحكم والإدارة العامة.
«أنا جمهوري، لكن تعرف ما المشكلة؟ « يقول لكوستاريكا « الرؤساء يتصرفون كالملوك. يمشون على سجادة حمراء، والحال أن الجمهورية تعني حكم الأغلبية. وعليه، يجب أن يعيش الرئيس كما تعيش الأغلبية، لا الأقلية».
ومن دون مواكب استعراضية، حين غادر الرئاسة في 2015، عاد لمزرعته كما خرج منها. ركب جراره، وبدأ يعتني بمحصوله الزراعي، الذي يخصص قسماً منه هو الآخر لدعم الفقراء، والمشاريع الشخصية البسيطة.
يكره بيبي المصارف التي يعتبرها مجد الرأسمالية، متأسفا على تراجع أعداد الاشتراكيين ولاسيما ممن ناضلوا معه، لدرجة تحول النضال ضد الرأسمالية، كنضال وهمي ضد عدو خارق حسم المعركة لمصلحة معسكره منذ عقود من الزمن.
رغم هذا يحافظ بيبي على حلمه، ليس في صدره فحسب، بل في ممارسته اليومية، مع العالم، وتسانده فيها زوجته ورفيقة نضاله لوسيا توبولانسكي عضو مجلس الشيوخ ونائبة رئيس الجمهورية.
لكن هل من أمر ندم عليه خوكين في رحلة النضال الطويلة تلك؟
يقول إن ندمه الوحيد كان عدم الإنجاب.
يغيب تركيزه للحظات وهو يتأمل ندمه هذا.
تتساءل وأنت تتأمل بدورك الوجه الطفولي والحاجبين الكثين الأشيبين لابن التسعين عاما، هل كان ابن رجل من هذا التراث، سيكون وفيا لأفكار وأحلام أبيه، أم خيبة أكبر من ندم؟