ثقافة وفن

فيرناندو دا أراندا «1878- 1969» مهندس العمارة الإسباني عاشق دمشق

| نبيل تللو

على مدى التاريخ الإنساني لم تتوقَّف مسيرة العلم ولا تنقل العلماء في أنحاء المعمورة، فكما أبدع «أبولودور الدمشقي» في عمارة روما، وكما أبدعت مهندسة العمارة العراقية ــ البريطانية ذات الشهرة العالمية: «زها حديد» في إنشاء عماراتٍ ليس لها مثيل حول العالم، فكذلك أبدع مهندس العمارة الإسباني «فيرناندو دا أراندا» في إنشاء عماراتٍ خالدة في دمشق؛ الذي قد يبدو اسمه غريباً للوهلة الأولى على كثيرٍ من أهالي دمشق، مع أنهم يشاهدون يومياً ويُفتنون بعماراتٍ تركها في مدينتهم، دون معرفتهم ببانيها. في هذه المقالة نتعرَّف على هذا الشخص الإسباني المولد الدمشقي الهوى، وعلى بصماته الواضحة في عددٍ من أبنية دمشق، راجياً أن يتذكَّر كرام القارئات والقراء ما نسوه، وأن يتعرفوا على ما لا يعرفونه.
ينتمي «فيرناندو دا أراندا» إلى الطبقة الأرستقراطية، وُلِدَ في مدريد بتاريخ 31 كانون الثاني 1878، والدته «صوفيا غوميز»، رافق والده الموسيقي بعد وفاة والدته إلى باريس، ومن ثم إلى إسطنبول، حيث عمل الوالد في الفرقة الموسيقية للبلاط العثماني، وكانت حياته مستقرة، درس الفنون الجميلة مختصاً في التصميم، غادر إسطنبول إلى دمشق التي عشقها منذ أن حطَّ رحاله فيها عام 1902، حيث أمضى جلَّ أيامه فيها يدرس تصميم فن العمارة، تعرَّف على زوجته الأولى اليونانية الأصل التي كانت تتنقَّل بين دمشق وبيروت خلال إقامته في فندق فيكتوريا، ثمَّ انفصل عنها بعد أن أنجب منها ولدين. سعى لتقلُّد منصبٍ دبلوماسي فيها، فعيِّن نائباً للقنصل الفخري الإسباني في دمشق بين عامي 1912- 1936، وتعرَّف على زوجته الثانية «صبرية حلمي» التي تصغره عشرين عاماً، وكان ذلك خلال عمله في ترميم منزل لعائلة حلمي، وهذا المنزل تشغله حالياً ثانوية الأندلس الخاصة في حي الحلبوني.
اعتنق الدين الإسلامي؛ ليصبح «محمد أراندا»، وتزوَّجا في حيفا، وعاد إلى دمشق وقطن فيها إلى أن وافته المنية في المشفى الإيطالي بتاريخ 27 كانون الثاني 1969 بعد معاناةٍ مع المرض، حيث صلَّى عليه حشدٌ من الدمشقيين في مسجد المرابط بحيِّ المهاجرين، وهو المسجد الذي صمَّمه وبناه قريباً من منزله، ودُفنَ في مقبرة الباب الصغير.
أسهمت عبقرية هذا الشخص في تطوير فنِّ الهندسة المعمارية وتخطيط المدينة الدمشقية الحديثة في النصف الأول من القرن العشرين، وما تزال ذكراه حاضرةً في مدينة دمشق من خلال نتاجه المعماري المتميِّز، وذلك بمزجه بين عناصر فن العمارة الإسلامية من قبيل: ألواح القيشاني، تشكيلات النوافذ، الزخارف الخشبية الداخلية؛ مع ملامح فنِّ العمارة الكلاسيكية الأوروبية، ولاسيما الطرازين الإسباني والألماني، ليسهم في التكوين المعماري لمدينة دمشق، من خلال ما تركه من إثر مادي تمثَّل في مخططاتٍ عمرانية وأبنية رائعة، زال بعضها، وأغلبها ما زال قائماً.
من أول الأبنية التي نفذها بناء عبيد عام 1906، وفي العام نفسه أشرف على تنفيذ مخطَّطٍ ألماني لبناء عمارة «عزت باشا العابد» في ساحة المرجة، وأبرز أعماله بناء محطة الحجاز عام 1907.
محطة الحجاز من أوائل الأبنية التي شُيِّدت في ساحة الحجاز وسط دمشق، وهو بناءٌ فخم ذو طابعٍ معماري أنيق، جميل الزخارف والهندسة الفريدة المتميِّزة، وفيه تظهر ملامح الأصالة الإسلامية الممزوجة بفنِّ العمارة الأوروبية المعروفة باسم: «الروكوكو»، وهذا ما أعطاه تميُّزاً وتفرُّداً في هيكلة البناء الرئيسة، حيث استطاع المهندس فيرناندو أن يوظِّفَ جميع مكوِّنات العناصر الجمالية الأصيلة في تصميم شكل المبنى المؤلف من الكتلة الرئيسة بالوسط، يعلوها جملون كبير يغطي البهو الرئيس للمحطة، وأتبعه ببناءين مصغَّرين عن الكتلة الرئيسة في أقصى اليمين واليسار، ويعلو كلٌّ منها جملون مماثل لها. كذلك تفنَّن في شكل النوافذ المتوجَّة بتاجٍ حجري مسطَّح مربَّع الشكل ومدكَّك من الحجارة السوداء بداخلها شعار الزنبقة الدمشقية الشهيرة على شكل زهرة بثلاث ورقات، وتمَّت زخرفة الواجهات بالخزفيات المملوكية والعثمانية، لاسيما الواجهة الرئيسية الرائعة من خلال توظيفه للأحجار المستخدمة فيها، وطعَّم البناء من الداخل بالزجاج الدمشقي المعشَّق، وبالخشبيات الدمشقية المحفورة على الواجهات الداخلية للمبنى، التي يتوَّسطها ثلاثة أبوابٍ ضخمة متوَّجة بأقواسٍ من الحجر الأبيض، وبرزت فوق الأبواب الثلاثة شرفةٌ كبيرة مستندةً إلى أربعة أعمدة رخامية مغروسة في أرضية درج المدخل، وتوِّجت الأعمدة بمقرنصاتٍ خفيفة لتشكِّل فيما بينها أٌقواساً داعمةً لبروز الشرفة. واتَّخذ الطابق العلوي شكلاً مغايراً عن الطابق الأرضي من حيث شكل النوافذ، التي اتسمت بالطابع الإسلامي ذي الأقواس الدائرية الأبلقية من الحجارة البيضاء والسوداء كما هو متعارفٌ عليه في معظم الأبنية الأيوبية والمملوكية بدمشق. كما يبدو على البناء لمساتٌ تزيينية إغريقية ظاهرة في الشكل الهرمي لواجهات السطح، وتتوسَّطه ساعةٌ كبيرة فوق المبنى الرئيسي (متوقِّفة عن العمل حالياً)، وبجانبيها توجد دائرتان كبيرتان كانت فيهما «طغراء» (شعار الدولة العثمانية)، التي شُكِّلت من توقيع السلطان عبد الحميد الثاني إلى جانب كلمة غازي، إلا أن هذين الشعارين قد أزيلا بعد انتهاء العهد العثماني.
وكان يتوسَّط ساحة محطة الحجاز سبيل ماء له قاعدة بازلتية بارتفاع نصف متر، ويعلوها برجٌ رخامي به أربعة مناهل للماء مزخرفة بشكلٍ يطابق تماماً زخرفة النوافذ العلوية لمبنى المحطة. غير أن هذا المنهل، الذي يُعَدُّ أحد النصب التذكارية في مدينة دمشق، وكان يشرب منه المشاة ماءً عذباً، قد نُقٍل إلى الرصيف أمام مبنى المحطة مباشرةً عند إعادة تنظيم الساحة لتسهيل حركة المرور، ونُقِشَ عليه اسم الطبيب الشهيد «مسلم البارودي»، ولكن لا يوجد به ماء حالياً.
ومنذ تلك الفترة بدأت خطواته العملية تظهر في تشييد فنٍّ معماري مميَّز في دمشق، فقد شارك في إنشاء المباني التالية: المبنى الرئيسي للجامعة السورية (1922)، مبنى السرايا في ساحة المرجة، منزل عطا الأيوبي (1928) ومنزل جميل مردم بك (1930) في جادة نوري باشا بمنطقة العفيف، بناء خالد العظم في دمر، مبنى المصرف التجاري (1930)، مبنى لجنة مياه عين الفيجة (1930)، مبنى وزارة السياحة، مبنى وزارة المواصلات (1940)، وقد انضم في العام نفسه إلى موظفي مديرية الأوقاف، كما شغل وظيفة المشرف المعماري في وزارة المواصلات، ونفَّذ توسيع الجناح الغربي للمتحف الوطني، القصر العدلي، أبنية جامع الطاووسية، عمارة البسام قرب مجلس الشعب، بناء مديرية الأوقاف في شارع النصر، وغيرها الكثير ممَّا لم يذكر. كما ساهم ببناء بعض الأبنية خارج دمشق، منها فندق زنوبيا في تدمر (1924)، الذي أدارته سيدة فرنسية في الثلاثينيات، ومن نزلائه الملك الإسباني ألفونسو الثالث عشر، أغاثا كريستي الكاتبة البريطانية المعروفة وغيرهم.
ختاماً أقول: إن ما دفعني لكتابة هذه المقالة هو الندوة التي أقامتها «مؤسسة تاريخ دمشق» مؤخراً في كلية هندسة العمارة بجامعة دمشق، بمناسبة مرور خمسين عاماً على وفاته (رحمه اللـه)، وفيها ألقى عددٌ من أساتذة الكلية كلماتٍ أشادت به وبأعماله، وكان في مقدمة المتحدثين الأستاذ الدكتور المهندس «طلال العقيلي» عميد الكلية سابقاً، الذي أعدَّ كتاباً شاملاً عنه سيصدر قريباً.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن