الإسكندرية.. يا شط الهوى …. موجعة مذ أحسست أن مرحلة حالمة من حياتي قد طويت

محمد الأحمد :
شط إسكندرية يا شط الهوى، رُحْنَا إسكندرية رمانا الهوى، يا دنيا هنيَّة وليالي رضيَّة، أحملها بعينيَّ شط إسكندرية. سنوات غيابٍ جسديٍ قسريٍ عن مدينة أحلامي، بدَّدها حضور روحي مديد لذكرياتها، لناسها، لشوارعها، لأزقتها، لزحمتها ولبحرها الغافي فوق أسرار كثيرة وخلجات لا تنتهي. إسكندرية الذاكرة البعيدة، المضمَّخة بالشوق، الساحرة وعشقها الممتد من لقاء أول مضى إلى غير رجعة، من دون أن تمضي آثاره ووجوهه المحفورة في حنايا القلب. إسكندرية الذكريات العذبة التي غدت موجعة لي مذ أحسست أن مرحلة حالمة من حياتي قد طُويت، إسكندرية التي قصدتها بعد غياب، ولم أجد فيها والدي عبد الحي أديب، ووالدتي الحاجة بسيمة، وأخي منير راضي، وصديقي ممدوح الليثي، وحبيبي نور الشريف، ورفيقي عادل حسني وغاليتي نبيلة عبيد. ذهبت إلى شيراتون المنتزه، فلم أُبصر نجلاء فتحي التي التقيتها أول مرة هناك، مررت من جانب (سان جيوفاني) وكلي أمل أن أهرع لمعانقة محمود عبد العزيز فلم أعثر على ضالتي، زرت (محطة الرمل) لأتناول الأيس كريم مع محمود قابيل كما اعتدت أن أفعل فلم يكن بانتظاري، بحثت في مكتبة الإسكندرية وفي القلعة عن سمير فريد ومن دون جدوى، وحَضَرَتْ نسائم الماضي لتبدد وحشة عارمة ألمت بي. إسكندرية الحاضر لم تكن أبداً إسكندرية الماضي، حفاوة الاستقبال الغامرة لم تنجح في جعل رائحة مناخها تتسلل إلى فؤادي، لا لم يكن العبير نفسه الذي تنشقته مرات ومرات. كرم الضيافة اليوم، لم ينتشلني من حالة الحنين الحزين لأمسي الذي أحب. زرقة البحر والسماء كانت على اتساعها ضيقة بغياب أحبابي وأسياد ذاكرتي. إسكندرية (السلاملك) وتلك السمراء النحيلة فارعة القوام، تنظر إلى محدِّثها بعينين ملؤهما بوح حميم غريب أربكه، فلم يعلم إلى يومنا هذا ماذا أرادت أن توصل له. إسكندرية رنا وشرائح لحم (البيتيللو) في فندق فلسطين، والجمبري المشوي في (قدورة) والفطير المشلتت في (هيلتون غرين بلازا)، إسكندرية منير راضي وعشرات حبات مانجا (ألفونس) التي جلبها لي من القاهرة، لكنه سرعان ما التهمها الواحدة تلو الأخرى. إسكندرية ميرفت أمين وبريق في عينيها، ومشوار عمر طويل مع نور الشريف ومحمود ياسين وحسين فهمي كما حكته لي في السيارة العائدة بنا من الإسكندرية إلى القاهرة، ولما سألتها أن تصف لي كل هذا بجملة واحدة ردت من فورها بشلال دموع منهمرة. إسكندرية محمود عبد الواحد وبداية صداقة عُمْرٍ هناك. إسكندرية الأسئلة الكثيرة التي راودتني والإجابات الجارحة لها، إسكندرية القلب، إسكندرية الماضي النبيل، إسكندرية أحبة الأمس، إسكندرية الهمسات التي «توشوش» القمر، إسكندرية سواد الليل البديع وكورنيشها الساهر حتى انبلاج الفجر، إسكندرية الأحضان الدافئة الكريمة بشمسها مهما بدا الجو رمادياً، فمن خلف غبار الحنين، أطلت وجوه من زمني الجميل مع إسكندرية الروح: إلهام شاهين، فاروق صبري، محسن علم الدين وإيناس الدغيدي، استعدت معها بقايا متناثرة من ذاكرة منقوصة متعبة. كنا جميعاً نحلم بنهرين في الدقيقة أما الآن فبدمعتين. سمعت دقات قلبي تصرخ: «من سورية العظيمة إلى مصر العظيمة ألف قبلة وألف حب»، وردَّ الصدى: «تحيا سورية، تحيا مصر»، ولما نظرت من نافذة غرفتي، لاحت لي سماء عريضة، تطل منها فيروز وهي تشدو:
ليالي مشيتك يا شط الغرام، وإن أنا نسيتك ينساني المنام
والشاهد عليَّ غنوة قمرية، والنسمة البحرية وشط إسكندرية.
صباح العودة إلى الوطن زرت (السلاملك) لأستعيد ذكرى حدائقه الغنَّاء، وحكاية تلك السمراء النحيلة فارعة القوام، وبَوْحِهَا النادر عليّ أصل إلى مكنونات لحظة العيون التي قالت شيئاً ما، غير أن إطلالتي هذه لم تدخر لي ما أردت معرفته، وسمعت همس أشجار الحدائق يقول: «قد أخفقت في مسعاك اليوم، لكن إسكندرية الأيام القادمة لن تبخل بما تطلب». في إيابي إلى الفندق، لمحت من نافذة السيارة المبلَّلة بقطر الندى كورنيش الإسكندرية العريق، واستكنت لأفق أزرق يمتد إلى ما لا نهاية، من دون أن أعلم سر القشعريرة التي تملكتني، وأنا أرنو إلى زرقة بعيدة ساحرة آخذة بالانكفاء.
مدير عام مؤسسة السينما