ثقافة وفن

في عقولهم لوثة ومشروع فساد … في نبوءة غوركي.. ليبراليو اليوم هم ليبراليو الأمس

إعداد – مها محفوض محمد :

يبقى المبدع كاتباً كان أم شاعراً العين الرائية لملامح المستقبل، فكم من أدباء كانوا حكماء عصرهم وظهرت في أقوالهم وأشعارهم فراسة المبدع وسداد الرؤيا بعد قرون من الزمن.. هؤلاء تعاقب الكثير منهم على الحضارة الإنسانية منذ نبوءة نفرتي في الأدب المصري القديم إلى استشراف العديد من أدباء القرن العشرين لأحداث ووقائع أبعد من حدود الزمن الذي عاشوه.. والأسماء كثيرة في أدبنا- لا مجال لذكرها- قد نقف عند بعضهم مثل جبران خليل جبران الذي حذر أمته من البقاء على ما هي عليه، متنبئاً بما ستصل إليه بعد مئة عام، ثم نزار قباني الذي قال في سبعينيات القرن الماضي: «إن الوطن العربي يبدو أمامي كناقة مذبوحة يسيل دمها من الخليج إلى المحيط، محكوم علينا أن نبقى تحت العباءة المصنوعة من الغبار والملح والحقد والشتيمة إلى يوم القيامة وربما أبعد وعلى برميل البارود الذي يجلس عليه الشرق الأوسط وأمام عشرات الخوازيق التي تنجر للأمة العربية».
أما الشاعر أمل دنقل فقد بكى بين يدي زرقاء اليمامة شاكياً لها حاله الأشبه بحالها حين كذب قومها حدسها مخاطباً إياها: «أيتها العرافة المقدسة جئت إليك مثخناً بالطعنات والدماء
أسأل يا زرقاء عن فمك الياقوت عن نبوءة العذراء، عن ساعدي المقطوع وهو لا يزال ممسكاً بالراية المنكسة.. تكلمي أيتها النبية المقدسة.. وتطول القائمة لأدباء رأوا واقع هذا الوطن الأليم قبل عقود من الزمن ومن غير الأدباء العرب الأمثلة كثيرة أيضاً كتب عن أبرزهم في المجتمع السوفييتي المفكر الروسي الكسندر إيفدوكيموف المستشار الأول في معهد الآداب العالمي التابع لأكاديمية العلوم في روسيا ورسم المهمة الاجتماعية الفارقة جداً التي قام بها كبار الكتاب في ذلك المجتمع بموجب الشعور بقوة أعمالهم ضمن محيطهم السياسي، الاقتصادي والاجتماعي والثقافي ويقترح الكاتب استخدام هذا البعد الرؤيوي كأداة لقراءة المجتمع الروسي كما يعيش اليوم أي بعد عشرات السنين من كتابة هذه النصوص.
يقول ايفدوكيموف: كما نعلم فإن الكتاب الروس هم أكثر من كتاب هم رجال أدب مشهورون هم معلمون في الماضي كما في الحاضر، فقد اعتبروا أسياد عقل وحتى أنبياء ولا تبدو هناك مبالغة في أي من هذه التسميات عندما نطلقها على كبار الكتاب السوفييت الذين تنبؤوا بالمقاومة السلمية للشر وبالواقعية الاشتراكية وبذلوا جهوداً ليقولوا الحقيقة للقيصر عبر ابتسامة كما اعتبروا وسطاء بين الشعب والحشد الذي يتجمهر حول العرش، كان القيصر وأمناء سره يستمعون إلى صوت رجال الأدب الذين أخذوا على عاتقهم أن يكونوا «مهندسي الروح الإنسانية» واستباق الأحداث بحدسهم للمستقبل وبالتالي تقديم النصائح تبعاً لما يمكن أن يحدث في المستقبل القريب أو بعد عقود من الزمن ويجب الاعتراف أن هذه النبوءات تحققت.
غوركي ضد الليبراليين

تحت هذا العنوان يقول الكسندر ايفدوكيموف: لقد تنبأ غوركي «1868- 1936» بما سيحدث وقرأ المستقبل بنباهة ورسم تفاصيل دقيقة لأحداث قادمة واستطاع أن يؤثر كثيراً في المجتمع والسياسة، وكانت الخلافات حول غوركي قد بدأت منذ أن كان على قيد الحياة واستمرت حتى يومنا هذا، لقد كان بشكل أساسي مناهضاً للسلطة الامبريالية وبعيداً عن التوافق مع القادة البلشفيين في جميع النقاط كان هدفه إثبات أن لا بديل عن الاشتراكية في روسيا.
أما مقالاته إلى الليبراليين فقد كانت مميزة في هذا الصدد حين شرع في صياغة أجوبة للذين كانوا يعارضون السلطة السوفييتية بشدة، أولئك الذين أرادوا العيش ضمن نظام يتمتعون فيه بحق استغلال الآخرين، هؤلاء الذين يعتبرون الملكية الخاصة شيئاً مقدساً، وكان غوركي يسميهم «المواطنين الميكانيكيين» لأنهم لم يقدروا الدولة التي يعيشون فيها، وهؤلاء هم ما يطلق عليهم اليوم «الليبراليون» وإليهم وجه الكاتب البروليتاري الأول قوله: «أنتم أناس لبستم زياً غريباً وأصبتم بعيب عضوي، في عقولكم لوثة بل لطخة مظلمة لها القدرة على الجذب إليها لتعكس تالياً الأفعال والأفكار بطريقة سلبية، ففي عقولكم مشروع فساد وانحلال في الرؤى مستمر وقد بدا عندكم هذا التشوه والانحراف من الطراز الأول بطموحكم الطفيلي لممارسة السلطة على الناس والعيش على امتصاص النسغ الحيوي للآخرين بهدوء وسعادة».
أولئك الذين يعتبرون الفرد أفضل من الدولة سماهم غوركي «الأنانيين أعداء الشعب في العمل» ومع ذلك في عام 1928 اعتقد أنه بالإمكان إقناع المعادين بتغيير آرائهم لكن دون جدوى حيث بدأ الوضع الدولي يتدهور وأعلنت حرب حقيقية ضد الاتحاد السوفييتي وأخذت وسائل الإعلام البرجوازية تطلق حملاتها بجميع النغمات فأعلن غوركي تصلب موقفه وكتب مقاله الأسطوري «إذا لم يستسلم العدو يجب إفناؤه» في صحيفة البرافدا.
وكان غاضباً من وجود طابور خامس مبتهج باجتياح العدو للبلاد محذراً من هجوم غربي وشيك الوقوع، ومنذ تلك اللحظة حتى يومنا هذا لاقى غوركي عداوة الليبراليين الذي سعوا لإزالة أسماء جميع الأماكن التي تحمل اسمه.
ويتابع ايفدوكيموف قائلاً: ما تنبأ به مكسيم غوركي هو ما يذهب إليه خصوم بلادنا اليوم في الداخل والخارج ليس فقط ليقفوا عرضاً أمام خط بناء الاشتراكية لكن ليتابعوا ممارسة الضغوط والتهديد بالحرب والعقوبات المفروضة على بلادنا من عدونا القديم ذاته وهذا ما ندد به غوركي في مقال أثار غضب الليبراليين خاصة كان عنوانه: «الرأسمالية الأوروبية» ضد العمل الإبداعي للاتحاد السوفييتي.
وينتقل ايفدوكيموف إلى الكاتب أندريه بلاتونوف (1899-1951) الذي وصف بكافكا الروسي والذي عانى كثيراً من تبعات تمسكه بمبادئه ونزاهته خلال مسيرة حياته وكان بلاتونوف قد أشار في كتابه «بوشكين وغوركي» إلى الإحساس بالخطر حين قال: «إن الشعلة الصغيرة تقدم لنا قليلاً من النور لأنه في هذه اللحظات تحول نصف الإنسانية إلى جثة لم يعد فيها روح بسبب الفاشية».
وعندما نرى ما يحصل اليوم في أوكرانيا والبروباغندا الضخمة من النازيين الجدد لدى أغلبية الشعب ندرك كم كان أندريه بلاتونوف على حق وكم ركز على التمسك بقوة الرؤية الاشتراكية والاعتماد على الإرث الثقافي العريق لروسيا. ويتوقف ايفدوكيموف مطولاً عند الروائي والمسرحي ميخائيل بولغاغوف (1891-1940) قائلاً: إنه واحد من أهم المستبصرين وليس مصادفة أن تبقى كتاباته إلى يومنا هذا تتمتع بالمصداقية وصنفت بحق أنها خالدة. فبعد تسعين عاماً على كتابته رواية «الحرس الأبيض» فإن أهمية وقائعها تدفع الكثيرين اليوم لإعادة قراءتها بعد أحداث أوكرانيا مع الدهشة من تشابه الأحداث وما يرونه على شاشات التلفزة وحتى عبر النافذة وبالنسبة لمن يعيشون في كييف فإن التشابه كان مذهلاً ولو أنه لا ينطبق على أدق التفاصيل، فرؤية بولغاغوف تجلت في تكرار الحرب الأهلية في أوكرانيا كما أن حلقات «الحرس الأبيض» تعرض التراجيديا الحالية في روسيا الجديدة كما تمثلت وحشية بيتليورا (سيمون بيتليورا أحد قادة الحزب الاشتراكي الديمقراطي الأوكراني عام 1921 تواصل مع اليمين الصهيوني ومن قادة اليمين فلاديمير جابوتنسكي واقترح عليه جيشاً لحماية اليهود) في جماعات العصابات الذين كانوا يحيطون بمواكب جنازات المحاربين ليفتكوا بهم وكانوا يقطعون أيديهم من الكتف ويفقؤون عيونهم.
ففي كييف التي كانت أم المدن الروسية دخلت وحدات البيتليورا دون أن تعترضها أي مقاومة كما هم أنصار الميدان اليوم الذين جاءت بهم أوكرانيا الغربية بعد مئة عام، فالأسلاف التاريخيون لهؤلاء اليوم تشكلوا من كتائب البيتليورا وفي تفسير نص بولغاغوف تبقى صورة الضابط بيتليورا في الظل بالنسبة إلى الأبطال الرئيسيين في المعسكر المضاد، على حين أنه ضمن إطار التراجيديا الدائرة حالياً على الأرض الأوكرانية تكتسي هذه الشخصية أهمية لا يمكن إنكارها. يستخدم بولغاغوف علامات واضحة في رسم بورتريه نموذجي عن بيتليورا فهو ليس مزارعاً ولا عاملاً إنما عسكري كما هي الحال غالباً في «الكتائب التأديبية» اليوم، والمقصود هنا ممثل عن الأنتلجنسيا وتكمن عبقرية بولغاغوف في إفهام القارئ هذه المفارقة التي تواجهها الضحايا المساكين في روسيا اليوم، ضحايا عصابات الانتلجنسيا. كما أن تشكيل هذه الكتائب يعيدنا إلى السواد الكامن في نفوسهم، وهكذا يفهمنا بولغاغوف كيف أصبح مبدأ الحرب الأهلية ممكناً في روسيا الجديدة مع تشويه وإفساد الضمائر لدى الأوكرانيين، ما سمح بتحول المعلمين المحترمين والأطباء والصحفيين إلى أشباح عصابات متعطشة إلى الدم وكيف تم إنتاج ذلك كله.
يقول: ايفدوكيموف: المحزن في الأمر أنه على الرغم من تسجيل هذه النبوءات القاتمة والاستشعار السيّىء لكبار الكتاب السوفييت لم يستطع الحدس اعتراض الوقائع ولا فعل شيء، فما نراه اليوم أن مخاوف مكسيم غوركي لم تكن سدى وللأسف فإن الليبراليين انتصروا في آب 1991 وأتاحوا للخونة أن يدمروا الاشتراكية وأن يفككوا الاتحاد السوفييتي وهذا ما كان يخشاه بلاتونوف حين قال: لقد فقدنا من هم أنموذج لمستقبل الاتحاد السوفييتي حيث كثر النفاق وبعدنا عن الصدق الحقيقي».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن