ثقافة وفن

مقهى «النوفرة» ينبض بحيوية روح الحياة … صالح الرباط لـ«الوطـن»: الناس تزورنا وكأنها تتمسّك بالشام وتراثها من خلال هذا المقهى

| سوسن صيداوي

أمر طبيعي أن يكون لك إرثاً عائلياً، ولكن من الصعوبة بمكان أن تحافظ على هذا الإرث، لا بل أن تسمح لأولادك ولأحفادك بمشاركتك به، ليمتدّ إلى سنين طوال بل إلى المئات منها، ومن جهة أخرى كيف إذا كان إرثاً له مكانته الخاصة لكونه من أحد عناصر التراث المادي وأيضاً التراث اللامادي. الحديث يعود إلى مقهى (النوفرة) في دمشق، هذا المكان الذي صيته وصل لكل المحافظات السورية، وحتى اسمه طرق مسمع الأجانب القادمين إلى سورية، والذين لابدّ لهم أثناء زياراتهم لدمشق أن يقصدوا المكان.

مرآة قلب

السنين الطويلة لم تغيّر من هيئة مقهى (النوفرة)، وحتى أعمال الترميم التي يقوم بها أصحاب القهوة تكون داعمة ومثبّتة لأساساته الحجرية والخشبية التي تَثبّتت محبة في القلوب وذاكرة دمشقية معطرة بعطر النارنج والياسمين والورد البلدي. اليوم الظهور والأكتاف لزوار المقهى تستنِد على- وتسنُد-الجدار المقوّس- بالنظر- والذي لا خطورة بتقوّسه نحو الأمام، الكل يصطف ويجلس بقرب الآخر ليكونوا جميعاً عائلة واحدة، ترتاح ضمن وقت قرروا فيه احتساء المشروبات التقليدية الساخنة والباردة مع الأركيلة أو التنباك. وفي الحقيقة ما أسرني ذلك اليوم هو نظرة شباب وفتيات ببداية العشرينيات، مع استغراقهم للسمع أثناء سرد الحكواتي للقصة باللغة العربية الفصحى، وكيف حقا أحداث القصة وأسلوب السرد جعلهم ينسَون هواتفهم النقالة وكل من حولهم، إضافة إلى تأثرهم ودهشتهم للأحداث. ضحكت وسخرت من العصرنة التي تُلهينا عما هو جميل، ليبقى حقاً للكتاب وللحتوتة فعلهما القوي في القلوب والنفوس. مقهى (النوفرة) ينبض بالحيوية وروح الحياة المستمرة، جامعاً الزوار وسط دمشق من كل صوب وحدب، فكل من يرتاد الحارات القديمة لابدّ أن يمر من أمامه، فهو يقع خلف الجامع الأموي، ننزل إليه بدرجات يمضي فوقها يومياً آلاف الأرجل لتتجه منها نحو ساحته المرصوفة بالأحجار البازلتية السوداء القديمة، وعندما تصل لن تجد مكاناً مباشرة، فالعتبات الثلاث والشرفات تعجّ بالزوار، وحتى الطاولات الـ36، الداخلية والخارجية كلّها(كومبيله) وعليك الانتظار كي تجد طاولة تلقي عليها همومك الفكرية وتعبك الجسدي من بعد تسوق طويل في الأسواق الدمشقية القديمة.

للمقهى رواية

تعود تسمية المقهى إلى النافورة أو البحرة التي تجاور المكان، والتي كانت مياهها تتدفق ملطفة الجو الحار في الصيف، ورغم توقفها منذ ما يزيد على نصف قرن، إلا أن تسمية المقهى لم تتغير، فكيف لا وهو الموروث أبّا عن جد، وفي حديث عن تفاصيل أكثر التقينا الحاج صالح أحمد الرباط، الذي يقوم بإدارة المكان مع أخيه والأبناء، ليقول «تأتي شهرة (النوفرة) لوجودها وسط مجمع أثري تراثي دمشقي عريق، فهي تقع في منطقة تتفرع منها كل حارات دمشق القديمة، ومن ثم كل من يريد التسوق أو التجول في سوق الحميدية أو زيارة الجامع الأموي، سيمر من أمام مقهانا وستجذبه أيضاً عمارته القديمة وخشبه العتيق رغم صغر مساحته».

وعن هذا الإرث العائلي الذي توارثته الأجيال من الجدّ للأب للأبناء يتابع الحاج صالح مسيرة أبيه ويدير المقهى مع أخيه والأولاد، مستخدماً دفتراً وقلماً كي يجري الحسابات بالطريقة التقليدية، فيقول: «منذ ولادتي وأنا موجود بالنوفرة، فهي شريكة حياتي في كل المراحل، لا يمكنني أن أتغيّب عنها، وصحيح أنها إرث عائلي من والدي وجدي، ولكنها أيضاً إرث تراثي وطني مهم، فلا أحد يأتي الشام إلا ويجلس ويرتاح، سواء أكان الزوار من الشام أم من باقي المحافظات -وحتى الأجانب- الكل يأتي إلينا ليجلس ويستشعر البساطة والراحة في جنبات المقهى. وبالنسبة للهيئة المعمارية للمكان ولديكوره، لا يمكننا أن نغيّرها لأنها تمنح المكان سبباً لخصوصيته، وصحيح أن الجدار الخشبي الخارجي تقوّص مع مرور الزمن، إلا أنه متين وثابت، فنحن نقوم بأعمال الترميم بين وقت وآخر، لنزيد من ثبات الأعمدة والسقف الخشبي، ونقوم بها من دون أن نُفسد هوية المكان الأصيلة».

مرتادو المنطقة يجلسون في المقهى لينالوا قسطاً من الراحة وليتمتعوا بالشاي الخمير والزهورات الشامية إلى جانب تدخين الأركيلة أو التنباك، وعن الأسعار عقّب الحاج صالح «أسعارنا شعبية تناسب الجميع، فالكل قادر على ارتياد المقهى والتمتع بمشروباته، حتى في ظل الحصار الاقتصادي على سورية وارتفاع الدولار بمواجهة الليرة السورية، ورغم كل الضغوطات بقيت الأسعار مناسبة، وهذا من الأمور التي تجعل زبائننا منتمين إلينا، وبالفعل هناك منهم من يأتي إلينا بشكل يومي وهم زبائن دائمون لسنوات طويلة، هذه العلاقة بين المقهى والزبائن جميلة جداً، وتؤكد على حب الزوار لدمشق وللأحياء القديمة، وللتمسك بالتراث السوري بكل تفاصيله».

إضافة إلى أن الفئة الشابة والفنانين هم من رواد المقهى وحول هذا الجانب أضاف: «كان يزورنا الكثير من الفنانين منهم دريد لحام وناجي جبر، وحتى اليوم يأتينا منهم بين الحين والآخر، وكذلك الفئة الشابة من الشبان والشابات ترتاد دائماً المقهى، فكل من يحب الشام يأتي إلينا، وكل من هو متعلّق بالحارات القديمة يأتي إلينا، لهذا مقهى (النوفرة) مستمر، وحتى في سني الأزمة، لم يختلف أي شيء، كنا نسمع الأصوات ولكن الكل كان يأتي ويجلس ويمضي وقته هنا، وكأن لا شيء يدور حولنا، بل أحب أن أشير إلى أن الناس كانت تزورنا وكأنها تتمسك بالشام من خلال هذا المقهى، وأدعو اللـه أن تدوم هذه المحبة وتبقى ديارنا عامرة بها».

تفان بالعمل

مَن لا يعرف العم أبو حسين؟ فكل من يقصد المقهى لابد أن ينادي له، كي يؤمّن له طاولة يجلس عليها ومن ثم طلباته، ولا يمكن أن يمر يوم إلا ونراه فهو يعمل بالمقهى ما يفوق العشرين عاما، وفي تفاصيل أكثر حدثنا: «أنا اسمي أبو حسين العبد، أعمل في النوفرة منذ اثنين وعشرين عاما، مقهى النوفرة مقهى شعبي وكل من يأتي إليه يشعر أنه يجلس في منزله لبساطة المكان والخدمات، إضافة إلى العفوية التي تملأ المكان والبعيدة عن المستوى الاجتماعي والثقافي والمالي للزوار الذين يأتون إلينا من المحافظات السورية كلها، هذا وحتى الأجانب يعلمون بالمقهى».

وعن البناء وصموده في مواجهة الزمن يضيف: «البناء قديم وصحيح واجهته مائلة، لكن ما من خطر فهي مدّعمة جيداً، ولا يمكننا أن نغير من هيئته المعمارية لأنه تراث قديم، فالخشب قديم جداً والحجارة أيضا، وفكرة التغيير مرفوضة لأن الزوار يأتون إلينا لهذه الخصوصية».

وعن طبيعة طباع الزبائن قال أبو حسين: «تجمع (النوفرة) أشخاصاً ينتمون لكل شرائح المجتمع السوري، فمنهم من هو بغاية اللطف بعكس زبائن يكونون مزعوجين ومستفزّين، ولكننا دائماً نستوعبهم ونقدم لهم طلباتهم ولابد أن نعمل على إسعادهم مهما حاولوا عبثاً إثارة المشاكل».

ما يثير الاستغراب بأن أبا حسين من شدة ولعه بعمله وبالمكان أشار خلال حديثه إلى أنه حتى في أيام عطلته يأتي المقهى، ليتابع خاتماً: «لم أتعب يوماً من العمل هنا وحتى في أيام عطلتي آتي، لا أنكر أنني حاولت أن أغيّر عملي ولكنني لم أستطع، أجد راحتي هنا وساعات العمل حتى لو كانت طويلة فهي لا تزعجني على الإطلاق».

تَزوّج المقهى

بقي يرتاد القهوة نحو خمسة وثلاثين عاماً، فهو يجد بـ(النوفرة) ونيسه، يأتي بشكل يومي ليدخن التنباك ويشرب الشاي الخمير، ولم يُثنِ عادته أي ظرف أو طقس أو اختلاف توقيت بين الشتاء أو الصيف، ليضيف أبو محمد: «قبل الأزمة كنت آتي بشكل يومي من مخيم اليرموك إلى هنا، واليوم آتي من مشروع دمر، لقد اعتدت على الجلوس هنا وبُعد المسافة لا يهمني أبداً، أجد أصدقائي هنا وأجد المتعة بتدخيني للتنباك وشرب الشاي الخمير اللذين حافظا على طعمها منذ أكثر من ثلاثين عاماً، فلا شيء تغيّر».

وفي سؤالنا هل حاول مرة أن يرتاد مقاهي أخرى وبأنه قد تزوج المقهى؟ وهل تغار عائلته من هذا الارتباط اليومي؟ ردّ ضاحكاً: «بالصدفة أذهب إلى مكان آخر، ولكنني معتاد على القدوم وقضاء المساء، وعائلتي اعتادت على هذا ولا يزعجهم الأمر لأنني أجد راحتي ومتعتي في هذا المكان على الرغم من كثرة المقاهي. ربما يربطني بهذا المكان حبي للحارات الدمشقية القديمة، فأنا أمشي فيها بشكل يومي كي أصل إلى هنا، فراحتي مستمرة منذ خمسة وثلاثين عاماً».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن