قضايا وآراء

حين يتعدّى الدور حدود الحياة

| عبد المنعم علي عيسى

في أواخر أيلول الماضي أجرى التلفزيون الرسمي الإيراني مقابلة نادرة مع الجنرال قاسم سليماني عرضتها قناة «الميادين» في الأول من تشرين الأول الماضي أيضاً، والمتابع لتلك المقابلة يلحظ، أكثر ما يلحظ، ثقل الإيدلوجيا وطغيان أثر التاريخ في فكر الرجل، حتى ليبدو مسكوناً بهما لا يفارقانه في صغرى الخطوات أو فيما يجول في مدارات الذهن والمخيّلة، لكن من الممكن للمتابع أيضاً أن يلحظ كاريزما شخصية مثيرة للإعجاب يرسم صوتها الخافت إطارها الأبرز، أما بقية الصورة فهي تتحدد عبر وداعة طاغية تشي بها حركات الأيدي وكامل الجسد، وفي أركان النفس الجياشة أمكن لحظ الكثير مما يشي بإيمان خارق بصوابية المسار والمصير، لكن الأبرز مما يمكن الوقوف عنده في هذا السياق الأخير هو ما تسرب عن كواليس تلك المقابلة التي جاء فيها أن سليماني كان قد بكى وطالب مرات عدة بوقف التسجيل عندما جاء ذكر الشهيد عماد مغنية الذي وصفه في حينها بـ«مالك الأشتر»، وللتوصيف هنا استحضار، ذو دلالة، لثقل الإديولوجيا الطاغي، لكنه يبرز منحى جديداً في شخصية الرجل حيث «التصوف الجهادي»، هنا عامل لا غنى عنه في ظل كل هذي الانهيارات التي تشهدها المنطقة، وفي ظل كل هذي الاختراقات التي ولا شك في أنه كان إحدى ضحاياها عندما استطاع، أحدهم، تحديد المطلوب من المعطيات التي لا يمكن لأي أجهزة رصد أن تحددها، فكانت النتيجة اصطباغ كتاب «الإذكار» الذي كان يضعه تحت يمينه بدم حار قان، ليسجل المشهد نقطة تحول مفصلية في الصراع الدائر في المنطقة وعليها.
إن نظرة متأنية لما جرى فجر 3 من كانون الثاني الجاري توصل إلى أن هذا الفعل الأخير قد حدث في أحد سياقين من الصعب أن يكون هناك ثالث لهما، الأول هو أن عملية الاغتيال قد فرضتها ضريبة «الهيبة» المهدورة لدى الدولة العظمى الأقوى في العالم، بعدما جرى المساس بهذي الأخيرة على امتداد أشهر امتدت بين أيار الماضي ويوم الجمعة الماضي، وفي سياقاتها كانت الحسابات تؤكد أن كل التوتر الحاصل في مياه الخليج لن يشكل مدعاة لنشوب حرب، وتلك حسابات أثبتت صوابيتها لكن في النهاية كان هناك كما يبدو تغييب لعامل الهيبة الذي اهتز كما لم يكن في يوم من أيام الإمبراطورية الأميركية في العصر الحديث، أما ثانيهما فإن الاغتيال قد يكون في سياق عملية محكمة ومرسومة بدقة تكون البداية فيها بالضغط على أعصاب القيادة الإيرانية عبر القيام بفعل كبير ما سيدفع بها إلى اتخاذ ردات فعل سريعة وغاضبة، فتكون هذي الأخيرة ذريعة لنشوب حرب كبرى محضرة مسبقاً تلقى فيها طهران المصير الذي لقيته بغداد في ربيع عام 2003.
ما يجعلنا نرجح هذا السياق الأخير، هو تغريدة الرئيس الأميركي دونالد ترامب في اليوم التالي للاغتيال التي هدد فيها بقصف 52 هدفا إيرانيا، إذا ما ذهبت طهران بعيداً في خيار التصعيد انتقاماً لاستشهاد قاسم سليماني، أما لماذا 52 هدفاً؟ تجيب التغريدة نفسها بأن هذا الرقم مستوحى من عدد الرهائن الأميركيين الذين أسرهم جند الثورة الإيرانية من سفارة بلادهم في طهران أواخر عام 1979، حيث سيستمر احتجازهم لـ444 يوماً، كان من نتيجتها سقوط الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر في الانتخابات التي خاضها أمام المرشح الجمهوري رونالد ريغن في أواخر عام 1980.
الآن من المؤكد هو أن الحدث الذي جرى في الساعات الأول التي سبقت فجر الجمعة الماضي، سيشكل نقطة تحول كبرى في الصراع الدائر والمتجذر على امتداد المنطقة، وكذا محطة مشروعة لمراجعة الحسابات، وإذا ما كانت ردود الأفعال الأولى توحي بعدم الرغبة في إشعال نار واسعة ستؤدي إلى تحويل المنطقة برمتها إلى رماد، إلا أن الخشية هنا هو ألا تجد طهران من سبيل، بعد أن راجت تصريحات تقول إن ما من «أميركي» يمثل ندّاً لسليماني لكي يجري استهدافه، أمامها سوى إعلان انسحابها التام من الاتفاق النووي الموقع مع مجموعة 5+1 في تموز 2015، والخشية الأكبر هنا هو أن تدفع هكذا خطوة نحو ولوج إيراني في مسار نووي سيكون ذا أكلاف باهظة.
هذه ليست دعوة لابتلاع الدم، ولا ترخيصاً بطهارة هذا الأخير الذي سال فعطر الأرض التي سال عليها، ومن المؤكد أن طهران فيها الكثير من العقول القادرة على استنهاض الموروثين المقدسين، الديني والتاريخي، وإسقاطهما على الحدث، وعندها فقط يمكن تجيير هذا الفعل الأخير في سياقات مفيدة، لقد انتصر دم الحسين عليه السلام، عندما انتصر الدم على السيف، نقول ذلك من منطلق الحرص على التجربة الإيرانية التي شكلت على امتداد الأربعين عاماً الماضية، ركنا أساسيا في مواجهة الهيمنة الأميركية، خصوصاً والغربية عموما، على المنطقة، وإذا ما هزمت تلك التجربة، فإن المنطقة ستدخل في نفق مظلم لن يكون معلوماً كيف ومتى وما السبيل للخروج منه.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن