قضايا وآراء

الجريمة والعقاب

| د. بسام أبو عبد الله

ليست هذه هي الجريمة الأولى التي ترتكبها الولايات المتحدة الأميركية، أي اغتيال الجنرال قاسم سليماني قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، والحاج أبو مهدي المهندس نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي في العراق، فهناك كتب، ومجلدات باللغات كافة تكشف بوضوح شديد لا لبس فيه حجم الإجرام الموجود في العقل الأمريكي، وعمليات الاغتيال التي نفذتها الـ«سي آي إيه» أو الأجهزة العسكرية الأميركية، ويمكن ببساطة توصيف أميركا بـ«الدولة القاتل» وبـ«الدولة المجرم» إن صح هذا التعبير، وهذا الأسلوب في القتل أسلوب صهيوني بامتياز نعرفه جيداً هنا في المنطقة عبر صراع ما زال مستمراً مع العدو الصهيوني، وأدواته.
السؤال الذي طرحه بعض المحللين، وتابعناه خلال الأيام الماضية من أن الشهيدين هما شخصيتان رسميتان إيرانية وعراقية، لا أهمية له لدى الأميركيين الذين لا يحترمون اتفاقية أو عهداً أو التزاماً وتاريخهم مملوء بالأمثلة على نقض العهود والمواثيق، وعلى احتقار ما يمكن أن نسميه أخلاقيات التعامل والسلوك أو أدبيات أو اتيكيت، فهذه القضايا غير موجودة في العرف الأميركي الميكيافيللي، أي «الغاية تبرر الوسيلة»، وفي التعاطي باستسهال مع قضايا الأمم والشعوب وكراماتها وعقائدها وثقافتها وإيمانياتها، لأن كل ذلك لا وجود له في عقل متوحش يشعر بالأفول والتراجع على الرغم مما هو بادٍ لنا على السطح من عناصر القوة الأميركية التي لا تنكر، ثم لا أحد أصلاً يقارن ولا تجوز المقارنة ولكن أميركا التي تعرفونها تتراجع وتتلقى الصفعات تلو الصفعات وللأسف لولا عملاؤها وأدواتها لكانت النتائج بادية أكثر للعيان، وستظهر في المستقبل ليس بعيداً.
سؤال آخر لا بد من طرحه، وهو هل الولايات المتحدة الأميركية تغتال أفراداً فقط؟ بالطبع لا، لأنها تغتال أمماً، وشعوباً بكاملها فالإيرانيون منذ أن أطلقوا ثورتهم أواخر سبعينيات القرن الماضي، وهم في حالة حرب، ومواجهة مع واشنطن التي لم تبقِ وسيلة حصار وتجويع وقتل واغتيال وحرب إلا واستخدمتها، ومع ذلك فإن طريق المواجهة والثورة في وجه هذا الطغيان والجبروت مستمرة ولا تتوقف، أما نحن السوريين فأعطوني شيئاً لم تستخدمه أميركا ضدنا، من الإرهاب المعولم إلى الحصار والتجويع والاغتيالات والقصف والشيطنة، ومع ذلك فإن كلفة المواجهة أقل من كلفة الاستسلام، كما قال الرئيس بشار الأسد ذات يوم، أميركا إمبراطورية لا يمكن الصداقة معها، ولا يمكن بناء العهود والمواثيق معها لأنها لا تحترمها، ولديها جنون القوة والتفوق، وما يسميه الأميركيون «الاستثنائية الأميركية» وهي عقيدة قريبة من مفهوم «شعب الله المختار» لدى الصهاينة، وبالتالي فإن السؤال الذي يطرحه بعض السوريين ببساطة؟ هل كان بالإمكان تفادي ما وقع في سورية من حرب ومن دمار بالاتفاق مع أميركا؟
الجواب: في حالة واحدة، إذا قبلنا كشعب ودولة ومسؤولين وجيش أن نكون أتباعاً للولايات المتحدة الأميركية؟ فقط في هذه الحالة، لأن أميركا ليس لديها أصدقاء أو حلفاء إنما أتباع، لديها حليف مدلل هو إسرائيل، وغير ذلك مجرد لغو، وكلام لا قيمة له ولا حاجة هنا للتذاكي، وطرح السيناريوهات.
انظروا كيف كانوا يتعاطون مع «روسيا – بوريس يلتسين»، وكيف يتعاطون مع «روسيا – فلاديمير بوتين» الذي قال ذات يوم: إن أميركا لا تريد شركاء أو أصدقاء إنما أتباعاً!
انظروا كيف كانوا يتعاطون مع دول أميركا اللاتينية في الماضي، وكيف يحاربونهم الآن في فنزويلا وبوليفيا وكوبا وفي كل مكان! انظروا كيف يتعاطون مع الصين وهي قوة اقتصادية هائلة تنافس الولايات المتحدة؟ وانظروا لكوريا الديمقراطية، وغيرها الكثير من الأمثلة.
مناسبة هذا الطرح أن أميركا وصلت إلى مرحلة في عهد دونالد ترامب لا ترى هذه الدنيا، ودولها، وشعوبها إلا بمنظار المال والثروة، ومن يخدمها ويكون طوع أوامرها، فهي كما ترون تتعاطى مع الأتباع باحتقار شديد، وبإذلال كبير، وكأن لا مشاعر وطنية، ولا كرامة لدى هؤلاء، ولأن جبروتها وصل إلى مرحلة القرف والغثيان، فإن ترامب لم يكن ليتصور أن هناك دولة في المنطقة تتجرأ على استهداف قواعد عسكرية أميركية جهاراً نهاراً وبتحد واضح، وأن بإمكان جيش رسمي في المنطقة أن يضرب هذا الجبروت، وهذه العنجهية وهذا التكبر، ويمرغ أنف أميركا هذه بالتراب.
الحقيقة الواضحة التي يجب أن نعترف بها جميعاً أن ما بعد الثاني والثالث من كانون الثاني 2020 ليس كما قبله، وأن علينا أن نؤسس لمرحلة جديدة اسمها «حرب التحرير الكبرى» على مستوى المنطقة، كما عنونت إحدى الصحف اللبنانية، وحرب التحرير الكبرى كما أفهمها لا تعني فيما تعنيه الجانب العسكري، أي طرد قوات الاحتلال الأميركي من المنطقة، وإنما طرد التفكير الخانع من عقولنا بأن أميركا قضاء وقدر، لا راد لها، وبأن ثقافة الذل والخنوع والتبعية لا تنتج تقدماً، وتطوراً، وعزة، وكرامة، وبأن دماء الشهداء التي سالت على هذه الأرض، وغيرها يجب أن تُزهر سلاماً واستقراراً، وتنمية وتقدماً، وأن تحقيق ذلك لا يمكن أن يتم إلا بتحالف قيادات، وشعوب، ومناضلي هذه المنطقة في وجه هذا الطغيان والجبروت الذي لا يجب أن يفهم أنه بالقوة وحدها بمفهومها المجرد، إنما بمفهومها الذكي «القوة الذكية» في المواجهة التي بدأت مرحلة جديدة في عام 2020.
أما أولئك العملاء، والأتباع، والخدم الذين ينشطون في إعلام البترودولار، والذين يعتقدون أنهم بحماية واشنطن فنقول لهم: أنتم تفاصيل صغيرة لا قيمة لها أمام عظمة الشهداء، والمضحين من أفراد وشعوب وأبناء المنطقة وأميركا التي تعرفونها عوقبت، وسوف تُعاقب أكثر على جرائمها، خاصة أن هناك انقساماً واضحاً بدأ يظهر داخل أميركا نفسها، وارتباكاً بادياً للعيان.
ما أود قوله إن هناك رداً قد حصل، ولا نعرف ماذا سيكون رد واشنطن على هذه الضربة، ولكن بغض النظر عما سيحصل، فقد دخلنا مرحلة العقاب على الجرائم، وهي مرحلة جديدة تماماً نحن جزءٌ أساسي منها، من خلال اجتثاث إرهابيي إدلب، وتحرير كل شبر من الأراضي السورية بما فيها تلك المحتلة من الجيش الأميركي، إنها مرحلة العقاب الكبير، فقد آن لنا أن نفعل ذلك بالتدريج، وبالجراحة الدقيقة، والواسعة.
العالم يتحول، ونحن فاعلون في صناعة هذا التحول ومن يقرأ جولة بوتين في دمشق القديمة، ولقاءه الرئيس الأسد يفهم تماماً عما نتحدث.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن