من دفتر الوطن

عمي الفذّ

| حسن م. يوسف

اسمحوا لي أن أذكركم بأن الفذ كما جاء في معاجم العربية هو الوَاحِد المتفرِّد في مكانته، أو كفايته. كان أجدادنا يقولون: فَذَّ فلان عَن النَّاس بمعنى تَرَكَهُمْ وتَمَيَّزَ عَنْهُمْ، وفَذّ الرجل عن نُظَرَائه: تفرّد عنهم بصفات خص بها وحده. والفذ بلغتنا المعاصرة هو المُتَفَرِّدُ فِي موهبته وعِلْمِهِ وَذَكَائِهِ. وأنا إذ أصف الفقيد الأستاذ في دار المعلمين وكلية التربية، شفيق عزيز مخلوف (أبو طلال) بـ(الفذ) لا أفعل ذلك لأنه والد زوجتي روز وجد أولادي مايا ورام، كما لا أفعل ذلك عملاً بمقولة سلفنا الصالح: «اذكروا محاسن موتاكم»، بل لأن كلمة «فذ» هي الأكثر دقة في وصف أبو طلال الذي واريناه الثرى في مسقط رأسه يوم أمس الأول الجمعة.
قد يكون من الطبيعي أن يضفي الأساتذة على الأستاذ الذي علمهم في دار المعلمين ودبلوم التربية مختلف الصفات الطيبة، إلا أن أبرز ما أتذكره هو قول أحدهم: «إن الأستاذ شفيق مخلوف لم يكن يعطينا من خبرته ومعارفه فقط بل كان يعطينا من روحه». والحقيقة أن أبا طلال كان رجلاً فذاً في كل ما يقوم به. ولمناسبة رحيله المؤلم أود أن أورد لكم مايثبت جدارته بهذه الصفة، فعقب حصوله على الشهادة الإعدادية أرغمته ظروفه على العمل كمراسل مساح لحساب «الريجي»، هيئة حصر التبغ والتنباك، ولتقديم البكلوريا الفرنسية، حفظ القاموس الفرنسي- العربي عن ظهر قلب!
تزوج شفيق مخلوف في وقت مبكر، لكن أعباء الأسرة لم توقفه عن الدراسة، فبعد البكالوريا درس التربية وعلم النفس في جامعة دمشق. وفي تلك المرحلة كان يصنع كل شيء بنفسه، الخزائن والصوفايات والكنبات، وأثناء قيامه بأعمال النجارة كان يكلف بناته وأبناءه بقراءة الكتب المقررة، على مسامعه، ثم يذهب ليقدم امتحانات بكتب لم يرها بل سمعها وهو يعمل!
في السبعينيات أوفد إلى الكونغو لتعليم التربية وعلم النفس باللغة الفرنسية، وأثناء وجوده هناك قرر أن يشتري سيارة، لكنه لم يذهب إلى سوق السيارات للتفرج على ما هو متوافر فيه، كما يفعل الناس العاديون مثلنا، بل تابع أخبار نماذج السيارات التي كانت الشركات تنوي إنتاجها في ذلك الموسم، واختار سيارته قبل أن يتم صنعها، ومن خلال مراسلاته مع الشركة، عرف التاريخ الدقيق الذي ستكون فيه سيارته جاهزة، وفي اليوم المحدد سافر إلى فرنسا واستلم سيارته من معمل رينو الواقع في ضاحية بولون بيانكور غرب باريس، وقادها من هناك إلى دمشق! وقد استطاع أبو طلال من خلال دراسة كتاب السيارة الإرشادي (الكاتالوغ) أن يصبح ميكانيكياً محترفاً، فقد اقتنى (بالانغو) وعدة ميكانيك كاملة وصار ينزل محرك السيارة ويفرطه قطعة قطعة، وعندما شاخت سيارته الرينو واضطر لبيعها كانت لديه خمسة محركات لها، وعدة علب سرعة، وكمية من العدة وقطع الغيار تكفي لفتح ورشة صغيرة.
لم يكن أبو طلال يعرف العالم البيولوجي فواز الأزكي، وأنا على يقين أنه لم يسمع بالقول المأثور الذي علقه الأزكي في مدخل متحفه الجيولوجي: «إذا لم تزد على الحياة شيئاً كنت زائداً عليها»، لكن أبا طلال كان يجسد هذه المقولة في جل ما يفعله. فعندما يقع عليه أي ظلم كان يلجأ للقضاء، وكان يدرس مواد القانون التي تمس قضيته. وذات مرة اكتشف أن المحامي الذي قام بتوكيله قد خالف أصول المهنة وقوانينها فرفع دعوى على المحامي وربحها ضده! وذات مرة أبديت اندهاشي لأنه يضيع وقته في مثل هذه الأمور، فقال لي مؤنباً بالفصحى: «الحق أحق بأن يتبع، وأوجب واجباتنا كمتعلمين أن نُعلِّم أبناء شعبنا، بسلوكنا قبل كلامنا، كيف يدافعون عن حقوقهم».
لقد رأيت أبو طلال بأم عيني وهو يعمل ميكانيكياً، ونجار موبيليا، ومعلم باتون، وبلاَّطاً، ومعلم كهرباء، وتمديدات صحية، كما رأيته مرة في السوق يختار الجلد والنعل وشاهدته بأم عيني يصنع حذاء لا يقل جودة وجمالاً عن أفضل الأحذية الإيطالية!
كان الأستاذ شفيق عزيز مخلوف يتقن كل ما يفعله باحتراف، وقد بنى أسرة من الناجحين فيها جندي باسل كرس نفسه لوطنه، ومهندستان ومترجمة، وفنانة تشكيلية، ومصممة أزياء وفنانان، وقد أتقن العيش حتى الخامسة والتسعين من العمر فحق له أن يوصف بـ«الفذ».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن