ضمير الأدب الألماني يودع الحياة…رحيل غونتر غراس عن 87 عاماً
ديالا غنطوس
«إنها طفولة بين الروح القدس وهتلر» بهذه الكلمات يصف ميخائيل يورغس حياة الكاتب الألماني الكبير غونتر غراس، فلا يجمع ما بين حياة الأدب والحرب إلا هو، وما بين سلاح الجو الألماني والسجن الأميركي حلقت ذاكرته ولم تستطع قضبان السجن أن تقيدها، ومن طفل لوالدين يملكان محلين للبقالة، إلى أكبر أدباء ألمانيا وأعظمهم كما وصفه موقع « شبيغل أونلاين»، فعن عمر ناهز السابعة والثمانين غادر غونتر غراس الحياة تاركاً إرثاً أدبياً لا ينضب، عرفه الناس من خلال العديد من الروايات التي ترجمت إلى لغات عديدة ومنها العربية، حاز جائزة نوبل للآداب رغم أن انطلاقته في عالم الأدب بدأت متأخرة، إلا أن مخزونه الفكري طفح بغزارة وأنتج سيلاً من الروائع التي ستبقى تخلد ذكره النفيس، لم يساوم على مبادئه ولم يحاب أحداً من أجل مكانة معينة، فنال أعظم لقب يمكن لكاتب أن يتمناه وكان « ضمير الأدب الألماني».
غونتر غراس، الذي ولد في السادس عشر من تشرين الأول عام 1927 بمدينة دانتسيغ التي تعرف حالياً بـغدانسك في بولندا وكانت حينها تخضع لإدارة دولية، نشأ في أسرة بسيطة لأب بروتستانتي ألماني وأم كاثوليكية من أصول بولندية، كانا يعملان في البقالة في حي فقير يقطنه الفقراء، وعاش طفولته وترعرع في منزل ضيق وصغير لكنه خلق فيه ذاك الحلم الكبير، وقد مر واجتاز غراس الكثير من الصعوبات المعيشية، كما شهد في رحلة حياته عدة محطات من الصعود والهبوط وواجه أخطاراً جسيمة، فحين بلغ السابعة عشرة من عمره وفي خضم معارك الحرب العالمية الثانية، تم استدعاؤه لأداء الخدمة العسكرية عام 1944، ابتدأ خدمته بالمشاركة ضمن قوات سلاح الجو لكنه انتسب لاحقاً للوحدات الخاصة النازية، وقد كشف ذلك للملأ بعد انقضاء عدة عقود ما أثار جدلاً كبيراً في ألمانيا التي خلعت عنها ثوب النازية، كما أعلن أيضاً وقوعه في الأسر لدى الجيش الأميركي بعد انتهاء الحرب عام 1946 وقضاءه عدة أشهر في السجن إلى أن أطلق سراحه في السنة نفسها، ثم بدأ بعدها دراسته الجامعية فدرس فن النحت في مجمع الفنون بمدينة دوسلدورف الألمانية، وأكمل بعد ذلك دراسته العليا في جامعة برلين للفنون التي تخرج فيها عام 1956، وقبل تخرجه في بداية الخمسينيات قرر أن ينتقل من الفنون التشكيلية إلى مجال الأدب والكتابة فانضم إلى مجموعة من الكتاب عرفت باسم «المجموعة 47» وهم مناهضون للفاشية، وفي عام 1961 انخرط في صفوف الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني، وكان يمثل ما يشبه «السلطة الأخلاقية» في ألمانيا، ومن مكانه هذا شن حملة عنيفة على رجالات الطبقة السياسية بسبب فشلهم في مواجهة النازية خلال الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية.
تعددت المواهب الإبداعية التي امتلكها غراس، ذاك المتمرد ذو الشنب العريض والنظارات الكبيرة المتكئة على أنفه برفقة غليونه الذي لا يفارقه، وبصورته كمتمرد مدخن للغليون وشنبه العريض ونظاراته الكبيرة الموضوعة على أنفه، ففي مقتبل عمره بدأ بالعزف على آلة الجاز ومن ثم قام بكتابة الشعر والرواية، كما أبدع بالنحت والرسم وبالتصوير، وبعد تخرجه من الجامعة عام 1959 استقر لفترة لم تطل في باريس، وقد عاش فيها مع زوجته حياة بسيطة ومتواضعة، شكلت تلك الفترة انعطافة مهمة بحياة غراس الأدبية، فقد كتب خلالها المسودة الأولى لروايته الشهيرة «طبل الصفيح» التي صدرت في العام نفسه ولاقت انتشاراً واسعاً ونجاحاً في ألمانيا وفي دول عديدة حول العالم وقد ترجمت إلى أربع وعشرين لغة كان من بينها اللغة العربية، وجرى تحويلها لاحقاً إلى فيلم أخرجه فولكر شلوندورف الذي نال عنه أوسكار أفضل فيلم ناطق بلغة أجنبية كما نال السعفة الذهبية في مهرجان كان، وقد حصل غراس على جائزة نوبل للآداب عام 1999 عن الرواية ذاتها التي وُصفت بأنها «مؤسِّسة للأدب الألماني في الحقبة التي تلت الحرب العالمية الثانية»، ازدادت شهرة غراس عالمياً بعد رواج روايته الأولى التي كانت جزءاً أول من ثلاثيته التي حملت إسم «ثلاثية دانتسيج»، وقد ضمت أيضاً رواية «القط والفأر» التي صدرت عام 1961، ثم الجزء الثالث باسم «سنوات الكلاب» التي تم نشرها عام 1963، واستمر غراس بكتاباته التي اهتمت برصد التبدلات الاجتماعية والظروف العامة في البلاد، فكانت انتفاضة المثقفين في ألمانيا الشرقية عام 1953 حاضرة في كتاباته، كما الاحتجاجات الطلابية سنة 1968 التي تطرّق لها بعد مرور عام من اندلاعها في رواية «تخدير جزئي» 1969، واتصفت كتاباته بالجرأة واللغة المتحررة اللاذعة وكان منها رواية «اللقاء في تيلكتي» عام 1979 و«الفأرة» 1986 و«مئويتي» 1999، ليكتب بعدها رواية «مشية السرطان» عام 2002 وقد عاد من خلالها إلى عام 1945 وغاص بين سطورها في أعماق التاريخ الألماني، وله روايات اتسمت بالسخرية والخيالية مثل «مذكرات حلزون» وأخرى أثارت جدلاً بين العموم في ألمانيا كرواية «القصة الكاملة» التي أدت إلى كيل الاتهامات له بعدم حبه لبلاده. كما حقق غونتر غراس حضوراً مميزاً في المشهد المسرحي الألماني فقد ألف مسرحيات منها «الطهاة الأشرار» سنة 1956 وبعدها بعام كتب مسرحية «الفيضان» 1957، وأيضاً أثبت خصوصيته وإبداعه في الشعر الحديث من خلال مجموعات ومؤلفات شعرية ابتدأها بـ«مزايا دجاج الريح» عام 1956 وله أيضاً «مُستجوَب» عام 1967، ولعل أبرز مجموعاته الشعرية كانت «وصلة المثلث» التي نشرها عام 1960 بعد عام من صدور كتاب «طبل الصفيح» الذي حقق منه شهرة عالمية واسعة.
حفِلت حياة غراس بأعماله الإبداعية، وكذلك زخرت بالمواقف العظيمة التي سجلها التاريخ، وكان لمواقفه وأفكاره الفضل بما هي عليه ألمانيا اليوم باعتراف جميع المنخرطين بالشأن العام الألماني، وكان منها انتقاده لماضي بلاده النازي واستنكاره وتضامنه مع ضحايا ذاك العهد، إضافة لممارسته دوراً ثقافياً وسياسياً تنويرياً مستقلاً ومناصرته لحقوق الإنسان، ومن أبرز مواقفه كان احتجاجه على ترحيل الأكراد من ألمانيا إلى كردستان العراق، كما كان أبرز المناهضين للغزو الأميركي للعراق عام 2003، ورفضه للحروب بشكل عام.
رحل عنا غونتر غراس في الثالث عشر من نيسان 2015، وغادر عالماً لم يكن يوماً مكانه المفضل، حيث أمضى 87 عاماً عاشها في خوض غمار السياسة والحياة الاجتماعية العامة ساعياً لخلق جدلٍ فكري بناء يفضي إلى تنوير المجتمع، عبر انتقاد موروثه بغية الوصول بالأجيال القادمة إلى مستقبل مغاير للتاريخ الذي يحفل بالأخطاء الكبرى، فكان غراس خير ممثل للضمير الإنساني، وبات جزءاً لا يمحى من ذاكرة الشعوب التواقة لمستقبل يعمه السلام.