رغم ميلنا للابتعاد عن السياسة في هذه المساحة، إلا أن تردد سيرة السلطان الراحل قابوس بن سعيد، حاكم عُمان ومطورها، بعد خمسين عاماً من الحكم الهادئ، في بيئة صراعات دامية محيطة، ربما يستدعي بعض التوقف.
الرجل الذي تعلم شاباً في أكاديمية ساندهيرست البريطانية، كسائر أبناء جيله من أبناء الملكيات العربية، عاد إلى بلاده في الستينات من القرن الماضي، وفي رأسه مشاريع تطوير ورؤى إستراتيجية لم ترق لوالده، الذي عرف عنه التزمت، والانعزال الذي طبقه على شخصه وعلى بلده. وبعد علاقة مضطربة بين الحاكم وابنه الوحيد، واحتجاز الأخير في حبس منزلي افتراضي لعامين، قام الشاب بعدها بانقلاب حريري على والده، بمساعدة من البريطانيين، وفق ما تذكره بعض المراجع، وتسلم زمام الأمور في البلاد، وحكمها منفرداً حتى نهاية الثمانينات، حين بدأ نهجاً إصلاحياً متدرجاً لهيئات حكم الدولة، وصولاً لتوزيع صلاحياته الكثيرة، على أفراد من الأسرة والأقارب، ممن تلقوا تعليماً مناسباً في العقود التي بدأ فيها الحكم، والذي أسسه في بداية السبعينيات، بمعونة العمانيين الوطنيين، ممن دعاهم للعودة من الغربة أو المنفى، والمساهمة في نقل البلاد من العزلة للانفتاح.
واجه قابوس في بداية رحلة حكمه، ثورة الظفار بين عامي 1965 و1975، وانتصر على اليساريين الموالين للاتحاد السوفييتي حينها، بقوات إيرانية خاضت المعركة مع جيشه في الجبال، حتى القضاء عليهم نهائياً، لكن تهديد حكمه من أنصار الشيوعية العالمية، لم يمنعه، من نسج علاقات مستقرة لاحقاً مع الدولة التي ستصبح روسيا الاتحادية تماماً، كما لم تمنعه صداقته المتينة مع نظام الشاه، من تأسيس علاقات ثقة واحترام متبادلة مع نظام الثورة الإيرانية، بعدها، علاقة احترام حافظ عليها الطرفان، حتى اللحظة، رغم الخصومة الشرسة بين المملكة السعودية وإيران، والعداء المتجدد دوماً بين طهران وواشنطن التي تعترف بصداقتها المتينة معه أيضاً.
لم يعاد قابوس إسرائيل، ولكنه لم يرم نفسه في أحضانها، ورغم أنه من أول الزعماء العرب الذين استقبلوا مسؤولين إسرائيليين في قصورهم، فإنه فعلها علناً، دون الالتزام بانعطافات سياسية حادة، بل فعل دوماً ما فعله، محاولاً الحفاظ على موقعه في الوسط بين الجميع، يحاول التقاط رغبة طرف بتهدئة ما أو تسوية ما.
بنى قابوس حكمه على هذه الفلسفة، التي مكنته من اكتساب ثقة أهل الخير والشر، الأخوة الأعداء، الخصوم التاريخيين وغيرهم، ممن وجدوا فيه دوماً رجلاً يستمع، وينصح، ولكن عينه دوماً تبحث عما هو خير له ولبلده، دون طموحات قيادية إقليمية، ولا إغراءات بالنفوذ أو مد السيطرة شبراً خارج حدوده الطبيعية.
كل هذا يبدو كإعجاز في الشرق الأوسط، فالرجل يجاور إيران من جهة، ويطل على الخليج وجزره المتنازع عليها بين أصدقائه وأشقائه، ولديه حدود مع اليمن، أبقاها بعيدة عن ضغوط استخدامها في النزاع، رغم قبوله بدور السعودية القيادي خليجياً، ولكن دون أن يلعب دوراً في سياساتها، أو يعادي أعداءها.
الرجل مثير للدهشة، وللاحترام معاً، وحين تفكر بالكتابة عنه، لا تستطيع تجاهل أيضاً، أنه منع الأحزاب السياسية، وتجنب توسيع هامش الحريات الإعلامية والثقافية لعقود، إلا أنه في الوقت ذاته وضع عمان في المراتب الأولى بعد قطر والإمارات في مؤشرات مكافحة الفساد، وهو أمر قريب من الإعجاز في شرقنا أيضاً.