قضايا وآراء

«عندما فقئت عين الأسد في العراق»

| رفعت إبراهيم البدوي

ما زال حدث اغتيال قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري في إيران الفريق قاسم سليماني يحتل حيزاً واسعاً من البحث المعمق في سبر أغوار ما يكتنف مرحلة ما بعد اغتيال سليماني، ومدى تأثيره أولاً على الصعيد الإيراني وثانياً على صعيد محور المقاومة الممتد من قطاع غزة واليمن والعراق وسورية ولبنان.
وإذا ما نظرنا إلى الحشود المليونية التي رافقت جنازة القائد سليماني بدءاً من كربلاء العراقية مروراً بمنطقة الأهواز تحديداً لما لها من خصائص على صعيد متانة اللحمة بين مختلف المكونات الإيرانية، ثم في طهران العاصمة والانتقال إلى مشهد وصولاً إلى كرمان مسقط رأس المغدور الشهيد سليماني التي أخرت عملية التشييع لساعات نظراً للجماهير الغفيرة، لاكتشفنا أن عملية الاغتيال الأميركية أعادت انطلاق الثورة الإيرانية مع الجيل الجديد وبزخم أكبر من زخم انطلاقتها الأولى في عام 1979.
أما بالنسبة لمحور المقاومة ولأن اغتيال نائب قائد الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس تزامن مع اغتيال قاسم سليماني بعملية غدر واحدة، فإن هذا الاغتيال أدى إلى توحيد الدماء بين الشعبين العراقي والإيراني على الرغم من المحاولات الأميركية المتكررة افتعال الفتن المذهبية والعمل على التفرقة بين الشعبين العراقي والإيراني، وإذا أضفنا إطلالة سماحة الأمين العام لحزب اللـه السيد حسن نصر الله متوعداً تنفيذ القصاص العادل انتقاماً لاغتيال سليماني باجتثاث الوجود الأميركي من المنطقة، فإن هذه الإطلالة أسهمت في شد عضد البيئة الحاضنة للمقاومة بشكل لافت، وخصوصاً بعد محاولات أميركية إسرائيلية لضرب هذه البيئة عبر تشديد الخناق عليها اقتصادياً وتفتيتها اجتماعياً وإلهائها بالمشاكل المعيشة المتفاقمة، ثم جاءت إطلالة زعيم الحوثيين عبد الملك الحوثي من اليمن متطابقة المضمون والأهداف مع ما تضمنه خطاب نصر اللـه، مسهمة في توحيد الصورة وفي تماسك محور المقاومة من إيران إلى العراق وسورية ولبنان واليمن، ولاكتمال الصورة وصل إلى طهران وفد رفيع من قيادتي حركتي حماس والجهاد لتقديم واجب العزاء لإيران والإعلان عن التمسك بالمقاومة المدعومة من إيران ضد العدو الإسرائيلي ليعلن بأن الشهيد قاسم سليماني هو شهيد القدس ومن طهران.
وبما أن الاعتراف من شيم الشجعان فإننا نعترف وبكل شجاعة أن عملية اغتيال قاسم سليماني أصابت محور المقاومة بضربة قاسية نظراً لمكانة المغدور السياسية والعسكرية، وكيف لا والشهيد سليماني اجتمع مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وأقنعه بضرورة التدخل العسكري الروسي في سورية وذلك للدفاع عن سورية وعن موسكو في عملية استباقية خارج الحدود الروسية، وهو الذي اتخذ قرارات حاسمة في سورية غيرت مجرى الأحداث فيها بالتنسيق والتفاهم مباشرة مع الرئيس بشار الأسد القائد العام للجش والقوات في سورية، وللدلالة على قساوة الضربة لابد لنا من العودة إلى مشهد مؤثر جداً للقائد علي خامنئي وهو يصلي على جثمان الحاج سليماني ويذرف الدمع باكياً من شدة التأثر بخسارة قائد بقامة قاسم سليماني المحبب إليه، وبالانتقال إلى ضاحية بيروت فإن نصر اللـه الذي تعود رثاء القادة الكبار أمثال عماد مغنية ومصطفى بدر الدين وسمير القنطار وحسان اللقيس وغيرهم بدا متماسكاً رغم التأثر والحزن البائن على محياه، متوعداً بالانتقام حين قال «أي دم سفكتم وأي كبد فريتم إنه لأمر مختلف جداً»، وبين دموع الخامنئي وحزن نصر اللـه يتضح لنا مدى فداحة الخساره التي خلفتها عملية اغتيال سليماني.
إن اغتيال سليماني جاء في وقت شهدت فيه المنطقة تسجيل أهداف إيرانية عدة في مرمى الأميركي الذي اتخذ منحى المنكفئ عن المنطقة وخصوصاً بعد توجيه رسائل إيرانية عدة للأميركي ودول المنطقة تفيد أن أمن مياه الخليج بيد إيران وبالتعاون معها وليس بالاستفراد بها، واستتبع تسجيل الأهداف الإيرانية في المرمى الأميركي بعد نجاح وسائط الدفاع الإيرانية بإسقاط طائرة التجسس الأميركية المتطورة فوق الأراضي الإيرانية ثم باحتجاز ناقلة النفط البريطانية رداً على احتجاز ناقلة إيرانية في مضيق جبل طارق، ولم يكن مشهد اعتقال رجال المارينز الأميركي من رجال الحرس الثوري الإيراني بعد تجاوزهم المجال البحري سوى مشهد فقأ عين الهيبة الأميركية فوق مياه الخليج، وليس مشهد المناورات العسكرية الروسية والصينية والإيرانية الثلاثية الأبعاد على أطراف مياه الخليج سوى الإعلان عن دخول إيران مصاف الدول الكبرى المناهضة للنفوذ الأميركي ودخول المنطقة عهد تحالفات جديدة الأمر الذي أشعر أميركا ببداية مسار خسارة هيمنتها على المنطقة.
هنا يجب ألا يغيب عن أذهاننا دور العدو الإسرائيلي وحلفائه في الإدارة الأميركية أمثال وزير الخارجية مايك بامبيو ونائب الرئيس الأميركي مايك بنس اللذين كانا وراء قرار ترامب باغتيال القائد قاسم سليماني، وذلك بعد إقناع ترامب أن مثل هذا الاغتيال سيضمن له أصوات اللوبي اليهودي لولاية ثانية في البيت الأبيض إضافة إلى تسهيل تنفيذ صفقة القرن الهادفة إلى تصفية القضية الفلسطينية، ما يضمن عودة النفوذ الأميركي كما كان بالسابق والإتيان بإيران إلى طاولة المفاوضات صاغرة وبلا شروط مسبقة، وخصوصاً بعدما وصفت إيران مبدأ التفاوض مع الأميركي بالسم الزعاف رافضة الخوض بالنقاش قبل رفع العقوبات الأميركية بالكامل عن إيران وعودة أميركا إلى الاتفاق النووي الإيراني.
إذاً عملية اغتيال سليماني جاءت لتسجيل أهداف أميركية عدة بالمرمى الإيراني مجموعة بهدف واحد وهو اغتيال رأس محور المقاومة وقائد فيلق القدس في الحرس الثوري درة الثورة الإيرانية ثم البدء بقلب المعادلة وكسر قواعد الاشتباك والانتقال من مرحلة تسجيل الأهداف إلى مرحلة تثبيت النتيجة.
الحديث عن الانتقام لاغتيال سليماني فرض واقعاً جديداً على ساحة الصراع الدائر بين إيران ومحور المقاومة من جهة وبين أميركا وحلفائها في المنطقة إضافة إلى العدو الإسرائيلي من جهة ثانية، ليكتشف الأميركي ومن معه بأنهم دخلوا نفقاً مظلماً من الصعب الخروج منه من دون كلفة سياسية وعسكرية عالية ستؤدي إلى خروج حتمي للقوات العسكرية الأميركية من منطقة غرب آسيا.
البعض شكك في تنفيذ إيران لعملية الانتقام والبعض الآخر شكك في تحقيق هدف الانتقام بيد أن إيران وقبل الانتهاء من مراسم تشييع جثمان الشهيد سليماني إلى مثواه الأخير قامت وبجرأة لافتة تنفيذ عملية الانتقام عبر إطلاق 13 صاروخاً باليستياً على أكبر وأفضل القواعد الأميركية تحصيناً في المنطقة وهي قاعدة عين الأسد في العراق وفي توقيت اغتيال قاسم سليماني نفسه، معلنة ببيان رسمي عن تنفيذ الانتقام الأمر الذي لم يحدث لأميركا ولقواعدها العسكرية منذ الهجوم الياباني على قاعدة بيرل هاربر في هاواي عام 1941.
صحيح أن الانتقام الإيراني هو خطوة أولى في مسار الحرب لاجتثاث الوجود العسكري الأميركي في غرب آسيا والمنطقة بيد أن هذه الخطوة تركت ندوباً ظاهرة في وجه الهيبة الأميركية وفقأت عين الأسد الأميركي في عقر قاعدته العسكرية ما سمح بتوجيه لكمة إيرانية خاطفة ومفاجئة خلفت ندوباً إستراتيجية في وجه الرئيس الأميركي دونالد ترامب وإدارته المترنحة.
إن أولى تجليات الرد الإيراني ارتفاع الأصوات الرافضة لعملية الاغتيال في الداخل الأميركي إضافة إلى تبادل التهم وتحميل المسؤولية بين أعضاء الإدارة داخل البيت الأبيض حيث لا مفر من تدفيع الثمن والتضحية بمن وقف خلف قرار الاغتيال، وفي هذا الإطار فإن بومبيو هو المرشح للاستغناء عن خدماته من إدارة البيت الأبيض الأمر الذي يضمن تبرئة ترامب وتحسين صورته الداخلية في معركته الانتخابية القادمة.
إن قرار إخراج القوات الأميركية من المنطقة ليس بالقرار الآني بل هو قرار إستراتيجي يحتاج إلى حياكة متأنية لسجادة إيرانية بأيدي محور المقاومة، وإن مثل هذا القرار لن يؤتي أكله إلا بعد تحقيق توازن القوة مع العدو الصهيوني واتباع مسار مقاومة الوجود الأميركي من محور المقاومة مدعوماً من إيران للوصول إلى المبتغى تماما كما حصل في فيتنام حين فقئت عين الأميركي وانتهى وجوده العسكري بالانسحاب المذل مهزوماً.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن