قضايا وآراء

المشهد بعد اغتيال سليماني

| أنس وهيب الكردي

ليس من السهل استشراف مآلات المنطقة بعد التصعيد الأميركي الأخير، والذي وصل حد اغتيال مسؤول في دولة ثانية على أراضي دولة ثالثة لحظة وصوله إليها مبعوثاً رسمياً في زيارة عمل، وعاجلته إيران برد، هز هيبة إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب.
بعد تهديدات إيرانية أميركية متبادلة بـ«حرب شاملة»، وضعت الشرق الأوسط والعالم على فوهة بركان، بدا وكأن الولايات المتحدة وإيران عادتا إلى التصارع وفقاً لأساليبهما المعهودة: الثورات الملونة، التحشيد العسكري، حرب بالوكالة والعقوبات الاقتصادية، لكن إيران أعلنت كذلك أن ردها على اغتيال سليماني سيكون استراتيجياً يشمل إخراج الأميركيين من المنطقة. وإلى الصراع الذي سيشتد على تقرير مستقبل العراق ومصير الوجود الغربي والأميركي فيه، ستكثف إيران أكثر فأكثر، انخراطها في المحور الروسي الصيني الناهض عالمياً، والذي يدق أبواب الشرق الأوسط. الأرجح أن يسّرع الإيرانيون مساعيهم لإدخال الصين وروسيا في معادلة أمن الخليج العربي والعراق، تماماً كما تعاونوا مع دمشق من أجل تسهيل عودة روسيا إلى شرقي البحر الأبيض المتوسط والشرق الأوسط من بوابة مكافحة الإرهاب بسورية، في رد إستراتيجي على الدخول العسكري الأميركي إلى شرق سورية بذريعة مكافحة تنظيم داعش، وأدت هذه النقلة الروسية إلى تحول الهيكل الدولي للشرق الأوسط من أحادي القطب، تهيمن عليه واشنطن، إلى ثنائي القطب.
بالمثل، سيغير منح إيران، الأسطول الحربي الصيني أو نظيره الروسي، تسهيلات في أحد موانئها المطلة على الخليج العربي، هيكل القوى بمنطقة الخليج لأول مرة منذ ورثت الولايات المتحدة الدور البريطاني في شرق قناة السويس بعد عام 1971، والذي أعادت هندسته وحيدةً، بعد حرب تحرير الكويت عام 1991.
إن تعميق علاقات طهران مع كل من روسيا والصين وتحولها إلى شراكات إستراتيجية، سيقض مضاجع الأميركيين، الذين لا تغيب عن بالهم نبوءة مستشار الأمن القومي الأميركي الراحل زبغينو بريجنسكي، والذي حذر فيها من اضمحلال الهيمنة الأميركية على آوراسيا، أي على القارتين الأوروبية والآسيوية، إذا ما تمكنت موسكو وبكين وطهران من إرساء تحالف ثلاثي لتقويض النفوذ الأميركي فيها.
تتوجس واشنطن من أي خطوة صينية أو روسية في الخليج والعراق، ولتحذيرهما من مغبة اتخاذ خطوات تساهم في الضغط على الوجود الأميركي والغربي هناك، لوحت إدارة ترامب بتوسيع مهام حلف شمال الأطلسي «الناتو» في العراق، أو توسيع الشراكات الاستراتيجية الموقعة بينه وبين دول خليجية أو حتى ضمها إليه.
ويبدو أن اليابان وألمانيا باتتا أكثر تقبلاً لفكرة توفير الدعم العسكري للولايات المتحدة في الخليج والعراق؛ الأولى لخوفها من تغلغل منافستها: الصين، في منطقة تستجر منها أغلبية صادراتها البترولية، والثانية لقلقها من تشكل محور إيراني صيني روسي، يبعد طهران عن القارة الأوروبية، ويجعل هذه الأخيرة أكثر اعتماداً على واشنطن لتأمين مصالحها في المنطقة. ويبدو أن برلين في عجلة من أمرها لتدعيم مواقفها في الخليج عبر إستراتيجية سياسية عسكرية أكثر نشاطاً مرتكزة إلى «الناتو».
لا شك أن ما يجري يذكر بشكل أو آخر، بفصل سابق من تاريخ المنطقة، جرت أحداثه إبان ذروة الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي في خمسينيات القرن الماضي، عنوانه «حلف بغداد» المعادي لموسكو. وقّع العراق وتركيا ميثاق الحلف أول مرة، قبل أن تشجع واشنطن توسيعه ليشمل بريطانيا وباكستان وإيران. في حينه، عارضت الدول العربية، بقيادة مصر والسعودية هذا الحلف. اللافت هو انقلاب مواقف كل من إيران وتركيا وباكستان، والسعودية حيال سيناريو معاصر مشابه، في حين يبقى العراق ساحة الحسم لهكذا مشاريع.
ملامح المشهد الإستراتيجي لما بعد اغتيال سليماني، ستتشكل في أغلبيتها على أرض الرافدين، مع تصاعد الصراع الأميركي الإيراني على تقرير مصيرها، واستعداد واشنطن وطهران للعب المزيد من أوراقهما في هذا الصدد. ستساهم عوامل جديدة في تحديد تلك الملامح، مثل: انزلاق القوة الروسية إلى المياه الدافئة للخليج وسعي الصين لإحياء طريق الحرير عبر «مشروع الحزام والطريق» ومحاولة اليابان اللحاق بالصين إلى المنطقة، وأخيراً، تبلور اسراتيجية ألمانية أكثر نشاطاً في الخليج العربي والعراق.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن