كتبَ الشعرَ في العشرين من عمرهِ وكُنِّيَ بـ«أبي الفقراء»…وجيه البارودي افتخرَ بذلكَ وتحدَّثَ في شعرهِ عن حبِّهِ للفقراءِ وعداوتهِ للمال
نضال حيدر
«… وجيه شاعرٌ موهوب يتَّقِدُ ذكاءً وفطنةً، وهو من الذين أوتوا النظر في الكلم وحسن الاختيار، أسلوبهُ عربي ناصع بعيد عن الأساليب الملتوية المضطربة التي خلقها هذا الزمان، واسِعُ الثقافةِ، طبيبٌ موفق يدمنُ المطالعةَ في دواوينِ الشعرِ وكتبِ الأدب، والشعرُ يظهرُ في حديثهِ ولفتتهِ وجلستهِ وهدوئهِ واضطرابه» هذا بعضُ ما أوردهُ شاعرُ العاصي بدر الدين الحامد عن الشاعر الدكتور وجيه البارودي.
من حماة إلى
«الجامعة الأميركية»
وُلِدَ الشاعِرُ الدكتور وجيه عبد الحسيب البارودي أوائلَ شهر آذار من عامَ 1906م في مدينةِ حماة السورية. أتمَّ دراستهُ الابتدائيةَ والثانويةَ والجامعية في «الجامعةِ الأميركية» في بيروت على مدى أربعةَ عشرَ عاماً وتخرَّجَ طبيباً عامَ 1932م.
في رِحابِ «الجامعة الأميركية» تكوَّنت شخصية وجيه البارودي بأبرزِ ملامحها وسِماتِها، ولعلَّ أهمّ ما أثر في حياتِهِ خلالَ هذه المرحلة الدراسية، فجيعتهُ بوفاةِ أمِّهِ عام 1923م وهو في السابعة عشرة من عمره، حيثُ خلَّفت لهُ أربع أخواتٍ أصبحنَ بلا سَنَدٍ ولا معين، بعدَ أن تزوَّجَ الأب، وكان أن حُرِم وجيه وأخواته الدعم المالي والمعنوي، فكان عليهِ أن يكونَ لهن الأب والأخ والمعين وفي ذلك نقرأ قوله:
خرجتُ أشقُّ طريقَ الحياة
بسيفِ اليقينِ ودرعِ الثبات
وحيداً أُناضِلُ.. لا والِدٌ
مُعينٌ، وأُميَ في الهالكات
«دار الندوة» والمقطوعة الأولى
أسسَ وجيه البارودي مع إبراهيم طوقان وحافظ جميل وعمر فرّوخ «دار الندوة» في بيروت عام 1926م وفي نفس العام صدحَ وجيه بأولِ مقطوعةٍ شعريةٍ، تبدت عبرها بدايته الشعرية الواثقة فقال:
قالت: ألستُ ملاكَ الحسنِ؟!.. قلتُ لها: أنتِ الملاكُ ولكن شانكِ القِصَرُ
فأطرَقَت يتلظَّى خدُّها خجلاً والدمعُ في طرفِها المكحولِ مُنحَصِرُ
تقولُ: هَبْ قِصَري ذنباً أَثِمتُ بهِ أليسَ ذنبُ حبيبِ القلبِ يُغتَفَرُ؟
فأفحمتني بإعجازٍ وَدَدتُ لهُ لو أنني أبداً أشكو وتعتذِرُ
حماة.. والبارودي
في السابعِ من شهرِ آب عامَ 1932م افتتحَ الدكتور وجيه البارودي أول عيادةٍ طبيةٍ لهُ في حماة، واستمرَ على رأسِ عملهِ طوال ثلاثةٍ وستينَ عاماً كان فيها بحقٍّ الطبيبَ العَالِم والإنسان.
وحين سُئِلَ الشاعر وليد قنباز عن حماة في أحد اللقاءات في التلفاز، قال: «حماة هي: العاصي، والنواعير ووجيه البارودي».. يومها أُعجِبَ الشاعرُ الطبيب بهذه العبارة، فصاغها شعراً بقوله:
قال الوليد: حماة تنتظر الوفو دَ السائحينَ لأمتعِ النزهاتِ
للوافدينَ إلى حماةَ ثلاث آياتٍ هي الإعجازُ في الآياتِ
جنَّاتُ عاصيها، وثانيها نوا عيرٌ، وثالثُها طبيبُ حماةِ
صور فكاهية ونوادر وطرائف
عُرِفَ عن الشاعر الدكتور وجيه البارودي جمالُ طرائِفِهِ كقولهِ: «أنا أقدَمُ طبيبٍ في حماة وأقدَمُ سائِقٍ في حماة وأقدَمُ شاعرٍ.. وأتعَسُ عاشق» وبعيداً عنِ العشقِ والغزل كانَ يحلو له سماع قصائدِ «عمر أبو ريشة والمتنبي».
لقد اكتسبَ وجيه البارودي من بعضِ عظماءِ الشعرِ أحسن ما اتصفوا واشتهروا بهِ، فمن «عمر بن أبي ربيعة» أخذَ الولوعَ والمغامرة، ومن «مجنون ليلى» اكتسبَ الرقةَ والأسى، ومن «البحتري» الوصفَ والإشراق، ومن «ابن الرومي» الدقَّة والبعد، ومن «أحمد شوقي» الإلمامَ والوضوح، كما زيَّنَ البارودي قصائِدَهُ بأجملِ النوادرِ التي رسمها في شعره.
ولعلَّ أكثر ما تميَّزَ بهِ البارودي هو إبداعه الصورَ الفكاهية والنوادر والطرائف التي يتناقلها أبناء المدينة، ومنها ما نسجتها مخيلة البارودي في هيئة «برقيةٍ» وجَّهَها إلى رفيقه وزميله في حلب، المحلل المخبري أديب الطيار في يوم زواجه وفيها يقول:
فحلاها من حلاهُ وحلاهُ من حلاها
قلتُ للطيَّارِ: أرِّخ «طنجرة ولاقت غطاها»
وللشعر الحديث نصيبٌ في شعر وجيه البارودي الذي يوردُ فيهِ رأياً طريفاً يمثِّلهُ قولهُ:
يخالُ الناسُ أن الشعرَ سهلُ وأنَّ الهَذْرَ بالأوزانِ يحلو
فعافوا النثرَ وابتَدَعوا قريضاً مريضاً شاحباً ما فيهِ حَيلُ
البارودي.. والقباني
عن نزار قباني يقول الشاعر وجيه البارودي: «نزار أهم شاعر حب في تاريخنا، وأنا شاعر العشق، وأنا أعشق نزار وأحبُّهُ حبَّاً لا يعادلهُ حب.. » لذلك لا عجب أن نجد البارودي يخص نزاراً بقصيدةٍ في ديوانه «سيِّد العشَّاق» ومنها نقرأ:
هو سيّدُ الشعراءِ في الدنيا وإن وَرَدَتْ قصائِدُهُم بألفِ لسانِ
أمُّ اللغاتِ فخورةٌ بِنِزارِها وهي التي تعتزُّ بالقرآنِ
وأنا أُزكيِّهِ.. وتزكيتي لهُ هي غايةُ التحقيقِ والبرهانِ
دواوينٌ ثلاثة.. ومخطوطٌ.. وتكريم
كُنِّيَ وجيه البارودي بـ«أبي الفقراء» وقد افتخرَ بذلكَ وتحدَّثَ في شعرهِ عن حبِّهِ للفقراءِ وعداوتهِ للمال..
كتبَ الشعرَ في العشرين من عمرهِ ولهُ ثلاثةُ دواوينَ شعرية: «بيني وبينَ الغواني، كذا أنا، و: سيّد العشَّاق» كما تركّ ديواناً مخطوطاً وَسَمَهُ بعنوان: «حَصادُ التسعين».
عامَ 1975م أُقيمَ للبارودي حفلُ تكريمٍ رسميٍّ وشعبي لِمناسبةِ بلوغهِ السبعينَ، كما أُقيمَ لهُ عامَ 1991م حفلُ تكريمٍ آخرَ برعايةِ وزارةِ الصحةِ السورية بصفتهِ أقدمَ طبيب.
رحيل البارودي
فارقَ الشاعِرُ الدكتور وجيه البارودي الحياةَ عندَ الساعةِ الثانية من صباحِ يومِ الأحدِ11شباط 1996م بعد حياةٍ حافلةٍ بالعطاءِ والإبداع… وهنا نستذكر ما كتبهُ نديمهُ وراويةُ شعرهِ الشاعر وليد قنباز في تقديمهِ لديوانهِ الموسوم بعنوان «سيّد العشاق» حيثُ يقول: «ولِد وجيه البارودي مطلع القرن العشرين يوم السبت 1/3/1906م في مدينة حماة، ورافقَ هذا القرنَ حتى نهايته، فعاش الحربين العالميتين والمجاعات، والحروبَ والأحداثَ التي عصفت بالمنطقة، لكنَّهُ نأى بنفسهِ عن كلِّ تلك الأحداث، واكتفى بالعالم الذي اختارهُ لنفسهِ: عالم الشعر والمرأة..».