ثقافة وفن

في ذكرى رحيله يذكره الُبُزق … إياد عثمان حاضر بمهارته في دار الأوبرا

| جُمان بركات

«الخميس ٢٠ كانون الأول ٢٠١٨ في تمام الساعة الخامسة مساءً، بانتظار إجراءات الدخول لمستشفى في –بيروت، كان يقلد الطبيب الذي فحصه أول مرة يشبه ممثلاً ما ولم نفهم ما يقول بسبب سرعته في الكلام إلا أننا ضحكنا كثيراً، والتقطنا صورة وكانت آخر صورة لك وأنت مستيقظ وتضحك، كنت أراهنك على نشر هذه الصورة.
دخلنا غرفة الطوارئ، «كريب يا رجل.. قوي حالك.. يعني شو خليت لباقي الأمراض»، التف المحبون حولك وبدؤوا بالاطمئنان على صحتك. قلت لميشيل خياط «ما تتركوني لحالي»، وكان ذلك لم يتركك وبقي إلى جانبك وإبراهيم أيضاً وباقي الأصحاب.

تم نقلك إلى غرفتك وبدأت مرحلة العلاج، تخدير عام لكل الجسم، امتلاء الرئتين بالماء، الكليتان تحتاجان للغسيل، والقلب مقصر، يوماً بعد يوم ونحن بانتظار المعجزة أن تحدث.
جاء القبول الجامعي الذي لطالما انتظرته لتكمل دراستك في الموسيقا في أهم الجامعات، توقف قلبك لأكثر من مرة وكان الأمل موجوداً دائماً.

الأربعــاء ٢٣ كانــون الثـــاني ٢٠١٩ عند الساعة العاشرة والربع ليلاً، كانت آخر دقة لقلبك الرقيـــق. من الممكــن أن تكون قد ارتحــت مــن الوجع الذي تعانيـــه إلا أن الوقــت كـان مبكــراً.
ستبقى في قلوبنا مثل موسيقاك.

بهذه الكلمات نعى العازف سام عبد اللـه صديقه إياد عثمان، وعلى الرغم من تعاضد الفنانين السوريين المقيمين في لبنان مع العازف، وعملهم المستمر على مدار شهر كامل لتأمين متبرعين بالدم والصفائح (البلاكات)، إلا أن تلك الجهود والدعوات لم تتمكن من إنقاذ حياة الموسيقي الشاب بنهاية المطاف، وها هو يكمل عامه الثاني ومازال حياً في قلوب من عرفه، حيث أحيا مهرجان البزق ذكرى الموسيقار إياد عثمان، وأهدت الفنانة ميس حرب ألبومها الجديد بعنوان «سوارات» إلى روح صديقها عازف البزق.

صاحب مشروع

إياد عثمان هو ابن حلب التي لطالما تغنت بمطربيها وملحنيها، إذا جاورها الموت والتف طرقاتها، انتقلت آهاتها إلى أرواح أبنائها ومنهم إياد الذي شاهد مدينته جرابلس تعاني ويلات الحرب، فنقل ذلك في حزن موسيقاه وصدق عزفه على البزق. لكن أكثر ما يميزه فعلياً أنه كان صاحب مشروع موسيقي أصيل، ففي أيامه الأخيرة كان يعمل على إطلاق ألبوم موسيقي يساهم فيه بإخراج آلة البزق من نمطيتها المعهودة في أداء اللحن المنفرد فقط من خلال أدائه للمرافقة الهارمونية، وساهم أيضاً بدمج النمط الموسيقي الشعبي السوري بأنماط موسيقية عالمية.
يعتبر إياد من الموزعين الموسيقيين السوريين الذين ابتدعوا أسلوباً خاصاً في التوزيع الموسيقي، ساهم في رسم ملامح جديدة ومعاصرة للموسيقا السورية خصوصاً والعربية عموماً، وعزف مع فرقة الروك البريطانية Gorillaz وشارك معها في جولة حول العالم سنة 2010 بعد مشاركته في تسجيل أغنية في ألبومها.

يحمل إجازة في الموسيقا من المعهد العالي للموسيقا بدمشق اختصاص بزق 2008 على يد الخبير الأذربيجاني عسكر علي ألكبيروف، وله العديد من المشاركات في أعمال الموسيقا التصويرية السينمائية والدرامية والمسرحية، وشارك مع فرقة «كون» المسرحية كعازف في العرض المسرحي الغنائي «حكاية علاء الدين» 2010.

بعد الرحيل

كان المشهد قاتماً بحزن الوسط الفني بأطيافه كافة على عازف شاب ابتكر وصمم على إخراج الموسيقا السورية إلى النور. لم يدع إياد الموسيقا تفلت من بين يديه، فبحث عن داعمين لمشروعه الفني ونال منحة من صندوق «اتجاهات» لإنتاج ألبوم موسيقي ينقل روح منطقة الشمال السوري حيث ولد، ويعيد صياغتها عبر النغم ليحفظ هذا الإرث الكبير من الضياع. ولم تكن «شماليات» إياد وحيدة، فقد شارك كنان أبو عقل في مشروع موسيقي ثانٍ لتطوير أنغام آلة البزق ودراسة محتواها الفني وأبعاد ذلك عبر بحث طوراه معاً لمصلحة صندوق «آفاق».
نضوج سريع لابن الخامسة والثلاثين أهلّه لإعادة توزيع افتتاحية إذاعة دمشق الشهيرة، وتوزيع حفلات لمطربين شباب من خريجي المعهد العالي للموسيقا على مسرح أوبرا دمشق.

مسيرة قصيرة

إن مسيرة إياد عثمان الفنية كانت لا تزال في بدايتها عندما رحل، واقتصر إرثه الفني على مجموعة من الأغنيات والمقطوعات التي قام بتوزيعها، إضافة إلى بعض المقاطع الموسيقية المصورة التي قام بأدائها ونشرها على وسائل الاتصالات البديلة، إلا أنه تمكن خلال مسيرته القصيرة من ترك بصمته الخاصة واكتساب شعبية في الأوساط الثقافية السورية، وذاك الغنى الذي حمله ترجمته الحياة بفقر دم بعد التهاب رئوي حاد، جاء نتيجة تناوله مضادات حيوية لا تناسب نوع «كريب» ألمّ بجسده، فانهارت المناعة بسرعة ولم تسعف تبرعات الدم من رفاقه المخلصين في إطالة أمد الحياة في ابتسامة يحفظها جميعاً كل من شارك إياد لحن، أغنية أو حتى ضحكة.

قصة حلم

كتبت الفنانة ميس حرب على صفحتها الشخصية يوم وفاة الشاب إياد عثمان:
«هل تعرفون لماذا كل هذا الحزن على إياد؟ لأن موته ليس مسألة رحيل شخص نحبه أو صديق أو جار أو قريب فقط وإنما قصته قصة كل إنسان خلوق مظلوم في هذه الحياة، قصة كل مبدع قادر على ضوء شمعة وحاسب متعطل عن العمل تقريباً إعطاء نتيجة أهم وأجمل من أولئك الجالسين خلف شاشات وآلات وأجهزة.
هي قصة كل شخص لا يعرف الخداع والأذى، هي قصة كل إنسان لا ينافس أحداً في العالم سوى نفسه، لذلك استطاع أن يكون بهذه الأهمية «اللي قلال انتبهولا وهو عايش»، هي قصة كل مبدع أحلامه بسيطة جداً وأعلى سقفها هي آلة جيدة وحاسب «ما بيعلّق» أثناء العمل وكرت صوت وبنت صادقة تحبه، هي قصة كل شخص نقدره ونحترمه ونعطيه حقه من دون استغلال أثناء حياته وليس بعد موته. كل هذه الأشياء جعلت الحزن على إياد يكون حزن بلد، حزناً من الأشخاص الذين يعرفونه ولا يعرفونه».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن