قضايا وآراء

انزياحات تركية

| عبد المنعم علي عيسى

لم يكن حال الداخل التركي عشية «القفزات الثلاث» التي ذهبت إليها أنقرة في سورية ما بين آب 2016 وتشرين الأول 2019، كحاله اليوم عندما قررت أنقرة قفزتها الثانية نحو ليبيا أوائل هذا العام الجاري.

في الحالة الأولى كان هناك شبه إجماع بين مختلف الأحزاب والتيارات السياسية على تأييد عمليات «درع الفرات» و«غصن الزيتون» و«نبع السلام» انطلاقاً من اعتبارات كان أبرزها ينبع من نظريات الأمن القومي التركي التي تصنف حزب العمال الكردستاني «خطراً يتهددها، بل يتهدد أيضاً وحدة وسلامة الأراضي التركية برمتها»، أما في الحالة الثانية، فقد جاء تصويت البرلمان التركي على قرار إرسال قوات تركية إلى ليبيا كاشفا عن حالة انقسام داخلية حددت نتيجتها العمق الذي وصلت إليه، فنتيجة التصويت الجاري في 2 من الشهر الجاري كانت تشير إلى 325 صوتاً موافقاً في مواجهة 184 صوتاً معارضاً، وإذا ما كانت تلك النتيجة معروفة قبيل طرح المشروع على التصويت لجهة الموافقة على ذلك القرار، إلا أنه لم يكن متوقعاً أن تأتي بتلك الصورة التي جاءت عليها، والمؤكد هو أن مفاصل النظام التركي كلها كانت قد جهدت، من أعلى الهرم إلى أسفل قواعده، في محاولة تقليص ذلك «الانفلاش» الذي ظهرت عليه الجبهة الداخلية عشية اتخاذ ذلك القرار، الأمر الذي يفسر استباق الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لجلسة التصويت بيوم واحد بمحاولة شد أزر جنوده مطالباً إياهم بتحقيق ملاحم في ليبيا، واستلهام بطولات القائد العثماني البحري خير الدين بربروس، في مطلع التمدد العثماني نحو البلاد العربية بعد مرج دابق 1516.

يصح اعتبار هذه اللوحة الداخلية المتشكلة بعد 2 كانون الثاني الجاري فعلاً ذا تداعيات خطرة على كامل المشهد السياسي التركي، ولربما أخطرها ستكون على حزب العدالة والتنمية الذي يشكل عصب السلطة القائم راهنا، فبعد إعلان وزير الخارجية السابق أحمد داوود أوغلو، المنشق عن حزب العدالة في أيلول الماضي، عن تأسيس حزبه الجديد الذي أسماه «حزب المستقبل» في 13 كانون الأول الماضي، من المنتظر أن يحذو نائب رئيس الوزراء الأسبق علي باباجان حذوه في غضون الأيام، أو الأسابيع، القليلة المقبلة، ومن المؤكد أن أردوغان يدرك جيداً أن خطوة هذا الأخير هي الأهم والأخطر مما يتهدد حزبه، صحيح أن أوغلو كان يشغل عملياً منصب «منظر الحزب» و«الدينمو» المحرك لخلاياه الفكرية، إلا أن أفكاره غالباً كانت توصف بالمحافظة، أو أنها من النوع الذي لا يملك جاذبية الاختراق في أطياف بعيدة عن المحور المحدد لحركتها، إلا أن باباجان يمتاز عن الأول بديناميكية واضحة من شأنها أن تمنحه هامش مناورة أكبر بما لا يقاس ربطا بنظيره السابق، وعليه فإن خطوة باباجان المرتقبة سوف تشكل تصدعا أكبر بكثير من ذاك الذي مثلته خطوة أوغلو، وفي النهاية إذا ما استطاع الطرفان إيجاد تلاقيات، تبدو صعبة الآن، فإن ذلك من شأنه أن يشكل عامل إعاقة كبيراً لـ«مجاديف» أردوغان الذي قرر التجديف بعيداً نحو ليبيا، صحيح أيضاً أن ذلك كله سوف يكون مرتهنا بعوامل إقليمية ودولية لا يبدو أنها باتت متبلورة حتى الآن، إلا أنها في شكلها الراهن تبدو كافية، ربطا بعامل اقتصادي يميل نحو حال من الوهن، لتفعيل وتقوية السياسات التي تتبنى وجهة نظر معاكسة لرؤى وسياسات أردوغان.

من الصعب اليوم الحكم على نتائج التدخل العسكري التركي في ليبيا، فالمشهدين الدولي والإقليمي المرتبطان بذلك التدخل يبدوان شديدي التعقيد، والأهم هو أنهما يبدوان قابلين لحدوث تحولات جذرية، والمؤكد هو أن واشنطن لا تريد سقوط طرابلس الغرب بأيدي قائد الجيش الوطني الليبي المشير خليفة حفتر، أما موسكو المؤيدة لهذا الأخير فإن موقفها يبدو قابلا لحدوث تحولات لربما ستكون ناجمة، بالإضافة إلى حالة احتياجها لنظام أردوغان، عن أمر واقع يقول إنها حتى لو أرادت الاستمرار في دعم حفتر فإنها لن تكون قادرة على تكرار السيناريو السوري في ليبيا لاعتبارات عديدة، أما المحور الإقليمي المناهض للتدخل التركي الأخير فهو لا يبدو قادرا على فعل الكثير، ومصر، التي يمكن اعتبارها بيضة القبان في أي فعل مضاد ومؤثر، تبدو مكبلة بالكثير، والأهم هو أن تصعيدها مع أنقرة بما فيه احتمال الدخول في مواجهة عسكرية يبدو أمراً محتملاً، بل قد يصبح خياراً مفروضاً لا مناص منه، إلا أنه سيؤدي بالضرورة إلى فرصة لن تفوتها إثيوبيا للضغط على القاهرة للحصول على تنازلات كبرى بخصوص سد النهضة الذي تراه الأخيرة مهددا لأمنها المائي والقومي كنتيجة، ناهيك عن أن الاعتماد على فعلي الإسناد السعودي والإماراتي لمصر يبدو أمراً هو أقرب للوهم منه إلى الحسابات المشروعة.

قد تعطي الصورة السابقة انطباعاً سوداوياً يشي بنجاح القفزة التركية، إلا أن دون ذلك عقبات كبرى لا تزال قيد التبلور والتفعيل، وتونس التي عاد منها أردوغان في 25 كانون الأول الماضي ليقول إن ليبيا باتت « ولاية عثمانية» أضحت بعد هذا التاريخ الأخير في وضع مغاير، بعد أن رد البرلمان التونسي في جلسة 10 الشهر الجاري مرشح النهضة، الحبيب الجملي، رافضا منحه الثقة، بل إن قوى سياسية تونسية تعمل، وفق تقارير، على سحب الثقة من راشد الغنوشي الذي يشغل منصب رئيس مجلس النواب، وإذا ما ربط ذلك بالحالة الجزائرية التي تبدو مترددة حتى الآن تجاه أي تقارب مع الطروحات والمطالب التركية لربما تحسباً لمد الشارع الجزائري الرافض أصلا لتلك الطروحات أو التقاربات، فإن قول أردوغان السابق يبدو قولا متسرعا أو هو صادر بفعل «النشوة» التي كانت مبررة بفعل إطباق «النهضه» على مفاصل القرار في ظل رئيس جاءت به صناديق الاقتراع فحسب.

تعثر التدخل العسكري التركي في ليبيا، أو حتى طول أمده من دون أن يفضي إلى المرجو منه، سوف تكون له تداعيات كبرى على داخل تركي مأزوم، وهو من شأنه أن يضع «السلطان» في موضع المترنح على وقع ضربات ثقيلة لا تتناسب مع «وزن الريشة» الذي سيكون قد وضع نفسه فيه.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن