جميع البشر قد ينتابَهم شعورٌ بالضعفِ نتيجةً لتفصيلٍ مؤلمٍ في الحياةِ التي يعيشونها، وصولاً إلى الهروبِ من واقعٍ مؤلم. الهروب ليسَ انعكاساً للجبن، فقد يتسمُ بالكثيرِ من الأحيان بالسموِّ والرفعة، لكن المشكلة تبدو في إيجاد الطريقة المناسبة للهروب، فمثلي مثلاً إن قرَّرَ الهروب عليهِ باديءَ ذي بدء أن يحملَ كلماتهُ ويرحل كونهُ لا يمتلك غيرها؟ أو نشرَها بحبرٍ سريّ كي لا يقرأ آلامهُ أحد، أو كتابةَ «مقالٍ وهمي» ينطلق من التحليلات الوهمية لواقعٍ نعيشهُ جميعاً، فقد تكون الفكرة ناجحة وشعبية، لكني خفتُ أن تكونَ أفكاريَ الوهمية تُدار من الخارج، كما هو حالُ سعرِ الصرف الوهمي للدولار! فتراجعت..
فكرتُ مثلاً أن أهربَ نحوَ التاريخ وإن كنتُ بالمطلق أكرهه وأكرهُ من يجيرونهُ لمصلحتهم، لكن في التاريخ الكثيرَ من الإيجابيات، من بينها «المقامات البغدادية»، أُحبها وأحبُ السيرَ على خطى صديقي بديع الزمان الهمذاني، فأرسلتُ لهُ عبرَ الحمامِ الزاجل أُخبرهُ بنيتي سرقةَ مطلع مقاماتهِ الشهيرة (اشتهيتُ الأَزَاذَ وأنا في بغداذَ)، لأستنسخَ من تلك المقامات ما يناسبُ جراحنا اليوم، لأقول:
(اشتهيتُ ارتشافَ جيدها المطليّ بالعنبَرْ.. فببطاقتي الذكية ما يكفي من لوزٍ وسكَّرْ)، لكني تراجعتُ، فماذا لو جاءَ ابن عمِّ من أتغزلُ بها على صهوةِ جوادهِ الأبجَرْ؟ متهماً إيايَ بوهنِ عزيمةِ القبيلة ليصبح في محاكمتي كابن شدّادٍ.. عنتر، بل وأدركتُ أن تاريخنا لربما ما عادَ لنا، فالحمامُ الزاجل سقطَ من تكاثفِ المشاريع فوقَ العراق، وبديع الزمان مسجونٌ بتهمةِ الدجلِ والنفاق، تباً لهذا الماضي أما فيهِ من ترياق؟!
حاولتُ الهروبَ من جديدٍ إلى حيث الواقع متمنياً على نفسي ألا أكونَ قد أخطأتُ الاختيار، فأنا أحبّ الطبيعةَ فلماذا لا أقدمُ نفسي كناشطٍ في مجالِ البيئة وزراعة الوردِ والأشجار؟ لكن مهلاً وقبلَ أن يذهبَ فيكم الشكَّ لتخلطوا بردَ كانون بشمسِ آذار، أنا لا أبتغي مرضاةَ ذلك جمعَ أموال الفقراء والضحكِ عليهم بصورةِ استثمار، أساساً لا قدرةَ لدي على استئجارِ مكتبٍ وسطَ عاصمةِ الدنيا والأمصار، ولا ارتداء طاقية إخفاء ليراني قاضي القضاة أو صاحب الشرطة داعيةً أو حِبراً من الأحبَار، كل ما هنالك أُريدُ أن أهربَ لأتحدثَ عن الحرائقِ في بلدِ الكنغر، من قالَ إنه حرامٌ علينا التعاطفَ معَ غاباتِ الكفار؟ هي ملكُ الإنسانية جميعاً، لكن في هذا الظرف ليسَ مسموحاً لكَ أن تتضامن حتى مع القرنفلِ والجُّنار، اهرب قبلَ أن يتهمكَ أبناءُ جلدتكَ بالنرجسيةِ أو الانفصالِ عن الواقع، بأنسنةِ الأفكار.
لم ترُق لي كلُّ مقاماتِ الهروبِ تلك، جلستُ محتاراً كمن يتساءل: ما مفردُ النحل؟ فلم يبقَ لي إلا مقام أبناء وطني لكن حتى هذا باتَ ملغوماً وقلتُ في نفسي، تريث وأنت تكتب.. على مهل، فهذا ولأنه يمتلكُ منصباً فيهِ ختمٌ دائري قد يعايرك بالقول: دعكَ في الوطن الذي اخترته، يا ربيبَ أفكار أبي جهل؟ أما ذاك الذي تريد التعاطف معهُ فهو قد لا يراكَ أكثر من مزاودٍ، يبيعُه المواقف، فما الحل؟ أيتنَاسونَ بأن لنا في الوطنِ شركاءَ لهم بالقهرٍ هم أخوة أو أصدقاءٌ وأهل؟!
عُدتُ أدراجي حيثُ أنا، أدركتُ أنه وإن كانَ للهروبِ مقاماتٌ لكنها بالمطلق تجميلٌ للضعف ومثلنا ما خُلقَ ليضعف، أدركتُ أن مقاماً وحيداً أهربُ إليه لا منهُ، مقامٌ قد يأتيكَ على شاكلةِ لحن، مقامٌ قد يحرك فيك معاني السجود إن عنا وجهكَ للحي القيوم، مقامٌ تتراصفُ فيهِ الكلمات لتشكلَ كتاباً لمن لا يريدُ أن ييئس.. مقام الهروب الوحيد في مثلِ هكذا ضعف.. صورة مقاتلٍ أو شهيد في الجيش العربي السوري!