ثقافة وفن

تل ليلان في الشمال السوري… عبق تاريخي عمره 8000 عام … تل قرية ليلان من أقدم المعالم الأثرية في العالم

| المهندس علي المبيض

ظهر اسم سورية لأول مرة في مخطوطات مملكة أوغاريت في الألف الثاني قبل الميلاد وعرفت باسم شرين، أما اسم سورية فقد ذكر من اليونانيين عندما استخدمها المؤرخ اليوناني هيرودوت وكان يقصد بها المنطقة الممتدة من البحر الأبيض المتوسط غرباً وحتى نهر الفرات شرقاً وبين جبال طورورس شمالاً وسيناء في الجنوب، ويرى بعض الباحثين أن أصل كلمة سورية هو أكادي آشوري وإذا كان الأصل له آشوري بعد قلب الشين سيناً هو الأكثر منطقياً أي سورية أو شوريا، كما يرى البعض أن أصل هذه الكلمة يعود إلى اسم مدينة صور (سور) الساحلية اللبنانية على حين أطلق المؤرخون العرب اسم بلاد الشام وهي المناطق التي تقع شمال الجزيرة العربية، كما أطلقوا اسم بلاد اليمن على المناطق التي تقع جنوب الجزيرة العربية.

ولقد احتلت سورية مكانة مهمة وقام على كامل أراضيها خلال الحقب التاريخية السابقة العديد من الحضارات كالبابلية والآشوريّة والأمورية والأكادية والحثية والآراميّة…. وغيرها، وهذا ما تعكسه البقايا الأثرية المعمارية والفنية والكتابية التي بقيت شواهد ناصعةً على هذا التاريخ الحافل وتركت العديد من الدلائل التي تعطي البرهان تلو الآخر. إن هذه المنطقة كانت أرض انفتاح ولقاء وليست مجرد أرض عبور للحضارات، وإنها كانت موطناً للممالك التي نافست كبريات الإمبراطوريات التاريخية الكبيرة كالبابلية والمصرية والحثية وجعلها مركزاً لأكبر خزان بشري للشرق فهي أصل الأكاديين والأموريين والآراميين.
وقد قدمت سورية للبشرية معارف الزراعة والتجارة والثقافة والفكر والفن وقدمت للبشرية الأبجدية الأولى التي تعتبر الحدث الأهم في التاريخ والتي فتحت أمام العالم أجمع سبل العلم والمعرفة ويسرت انتقالها وانتشارها.
ومن المهم جداً أن نذكر أن هذا العبق التاريخي والماضي المشرّف لا ينطبق فقط على المناطق الساحلية أو مراكز المدن الرئيسية بل يتعدى ذلك إلى جميع المناطق السورية ومن دون استثناء من الشمال للجنوب، فعلى سبيل المثال إذا توجهنا لأقصى الشمال السوري فإن محافظة الحسكة تعدّ من أغنى المناطق الأثرية في سورية وهي محافظة عريقة بآثارها إذ تضم ما يقرب من 800 موقع أثري مسجل لدى دائرة الآثار والمتاحف في المحافظة ويعود تاريخها إلى الألف الثالث قبل الميلاد، وتضم محافظة الحسكة عدة مواقع أثرية تعدت شهرتها المحلية وانطلقت للعالمية مثل تل ليلان، تل بري كحت، تل براك، تل موزان، تل حلف غوزانا، تل حطين، تل الفخيرية، تل شعير حموكار… وغيرها.
تل ليلان وهو موقع أثري كبير يقع على الضفة الشرقية من وادي الجرة عند التقائه بوادي القطراني، يتوضع في الجزء الشرقي من سهل الخابور على بعد 25 كم جنوب شرق مدينة القامشلي وعلى مسافة 120 كم إلى الشمال الشرقي من محافظة الحسكة شمال شرق سورية، وهو تل ضخم تبلغ مساحته 900000 م2 وارتفاعه عن السهول المحيطة به 15 م، وهو عبارة عن مدينة شُباط انليل عاصمة المملكة الآشورية القديمة في عهد الملك شمشي آدد الأول في القرن الثامن عشر قبل الميلاد.
يعد تل قرية ليلان من أقدم التلال الموجودة في مناطق «ميزوبوتاميا» سكنها الأكاديّون ولا تزال تحتفظ بآثار تلك الحقب، «ميزوبوتاميا هو الاسم القديم الذي أطلق على كامل المنطقة التي تقع بين نهري دجلة والفرات» وفي هذه المناطق نشأت إمبراطوريتان منفصلتان مهمتان وهما الإمبراطورية الآشورية في الشمال والإمبراطورية البابلية في الجنوب.
وليلان كلمة كردية تعني باللغة العربية (السراب)، القرية معروفة بتلتها الأثرية التي مازالت قائمة حتى يومنا هذا، وبعض الأبحاث تتحدث عن قرية ليلان القديمة التي حكمها الأكاديون خلال الفترة الواقعة بين 2300 – 2200 قبل الميلاد، وكانت تسمى آنداك بمدينة شخنا وتحولت لجزء من الإمبراطورية الأكادية في عهد الملك الأكادي نارام سين الذي أقام العديد من المراكز الأكاديّة في منطقة الخابور، ومن أهم شواهد الوجود الأكادي الرُّقم الكتابية المسماريّة والأختام الأسطوانية التي عُثر عليها في الموقع، واكتسب تل ليلان أهمية خاصة خلال تلك الفترة لوقوعه على إحدى الطرق التجارية المهمة بين آشور والأناضول بل كان يعتبر من أهم المواقع الإستراتيجية التجارية خلال العصور القديمة وتعامل سكانه بالتجارة مع مدينة الموصل في العراق، وكان يحتوي التل على أهم مستودعات القمح في تلك الفترة ولا تزال آثار تلك المستودعات موجودة حتى الآن.
يتكون الموقع من قسمين المدينة المنخفضة في الجنوب وهي الأكبر والمدينة الأصغر المرتفعة في الشمال وقد شُيدت معظم الأبنية المهمة في المدينة المرتفعة.
في منتصف الألف الثالث قبل الميلاد شهدت مدينة ليلان التاريخية نهضة عمرانية وحضاريةً كبيرة وازدياداً مطّرداً في حجم الاستيطان ونشاطاً تجارياً متميّزاً دلّ على ذلك المباني المهمة في المدينة المرتفعة، ومن أهم تلك المباني التي اكتشفت فيها المعبد الديني الذي مورست فيه الطقوس الدينية الأكادية وهو يقع في الجهة الشمالية الشرقية من المدينة المرتفعة، وقد بني من اللبن على مصطبة مرتفعة ويعود للألف الثاني قبل الميلاد مزين بمحاريب ويتميز بنمط واجهاته الطينية وأعمدة ملتوية ومزخرفة بخطوط حلزونية ما يشبه جذوع شجر النخيل واحتوائه على قاعة مركزية كبيرة مستطيلة الشكل تحيط بها الغرف الأصغر من الجانبين الشرقي والغربي، ويُعتقد أن هذا المخطط كان النموذج الأول الذي بُنيت على نمطه المعابد الآشورية على امتداد الألف الثاني قبل الميلاد، كما تم العثور داخل المعبد على العديد من القبور وأوان فخارية ورقم مسمارية قدّمت معلومات مهمة وغزيرة عن الواقع السياسي والاقتصادي للعصر الآشوري، وأختام أسطوانية الشكل كتب عليها بالمسمارية تشبه تلك التي وُجدت في جنوبي بلاد الرافدين وهي دليل العلاقة المبكرة بين مناطق السومريين والجزيرة السورية العليا منذ ذلك العصر، ومما دلّل أيضاً على التطور الحضاري الذي حظيت به المدينة وازدهارها اتساع المناطق السكنية وتنوعها حيث تحول الموقع من تل في قرية صغيرة إلى مدينة بلغت مساحتها 900000 م2 كما أحاط الأكاديون المدينة المنخفضة بسور دفاعي ضخم بلغت سماكة بعض أجزائه ثمانية أمتار وهو جزء من نظام دفاعي وتحصين لحماية المدينة، وتزامن وجودهم مع نشاط اقتصادي وزراعي ملموس رافقه إنتاج أنواع جديدة من الأواني الفخارية وتحركات سكانية كبيرة ضمنت سيطرتهم على المنطقة، كما بُني المزيد من المنشآت العامة وبينها المعابد التي مورست فيها الطقوس الدينية الأكادية، إضافة إلى فصل السلطة السياسية والدينية عن المنطقة السكنية في المدينة المنخفضة ما يعكس صورة واضحة للمدينة ولتطور تنظيماتها السياسية والاجتماعية والدينية والاقتصادية والتشريعية.
عثر خلال التنقيبات التي تمت فيها على مكتشفات دلّت أن تاريخ الاستيطان في الموقع بدأ منذ منتصف الألف السادس قبل الميلاد واستمر حتى نهاية 1800 قبل الميلاد، وقد سكن تل ليلان ابن حمورابي شمشي آدد الذي أسس الإمبراطورية الآشورية وحكمها عام 1813 قبل الميلاد، شكّلت الأنهار سواراً حول تل ليلان إذ كانت محيطة به كنهر جرح ونهر معشوق ونهر سوبلاخ إضافة إلى قيام سكان القرية الأثرية بتنفيذ مجرى صناعي لجدول ماء حولها لزيادة تحصين القرية وحمايتها من الهجمات في تلك الحقبة.
ومن أهم المكتشفات التي ظهرت أثناء عمليات التنقيب كانت تواريخ مهمة في كتاتيب إضافة إلى بعض الخرز والإكسسوارات وأربعة أفران وحمام يُعتقد أنه للإمبراطور شمشي آدد كما عُثر على هيكل عظمي يتوقع أنه كان لامرأة، كما عثرت البعثات الأثرية خلال عمليات التنقيب داخل أقدم السويات الأثرية في الموقع على مجموعة فخاريات تعود إلى فترة حلف وفخاريات ملونة مصنوعة باليد وغير مشوية تعود إلى فترة الحضارة العبيدية، ومجموعة من الأواني الناقوسية العائدة إلى فترة أوروك (فترة الأوروك تغطي ألف عام تقريباً من 4000 إلى 3000 قبل الميلاد).
ويعتبر القصر الملكي من أهم المباني التي تم اكتشافها في المدينة المنخفضة ويضم عشرات الغرف وبعض الباحات وقاعة العرش، كما تم العثور داخل القصر على أرشيف ضم المئات من الرقم المسمارية باللهجة البابلية القديمة تضمّنت تشريعات ومعاهدات دولية ورسائل سياسية سلّطت الضوء على التطورات التي حدثت في منطقة الخابور بعد سقوط مملكة ماري وقدمت معلومات مهمة عن الفترة الأخيرة من تل ليلان.

مستشار وزير السياحة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن